محطات نيوز- عندما عمل العميد الراحل ريمون اده على تطبيق السرية المصرفية في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، كان ذلك بهدف جلب اموال الى المصارف اللبنانية التي حققت نجاحات باهرة آنذاك في هذا المجال، إذ وجد اصحابها بيئة دافئة في ربوع الارز مقارنة بالبيئات السياسية في المنطقة، ولا سيما في مصر وسوريا والعراق حيث لجأ المتمولون الكبار الى بيروت هرباً من التأميم والعسكريتاريا في بلدانهم. ولم يكن اده يقصد من مشروعه حماية اموال المهربين والفاسدين والسطو على جنى المواطنين وأتعابهم. ويأتي هذا الكلام في خضم النقاشات الدائرة حول المطالبة بالتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان وسائر المؤسسات. وسيكون هذا الموضوع اليوم مدار بحث طويل في جلسة نيابية في قصر الاونيسكو بعد الرسالة التي وجهها الرئيس ميشال عون في هذا الصدد ورميه كرة نار التدقيق الجنائي والمحاسبي هذه في رحاب البرلمان. وقد سارع الرئيس نبيه بري الى تحديد موعد مفضّلاً عدم الاستفاضة في التعليق على الرسالة، بل تعامل معها بايجابية وحدد موعداً لها في جلسة عامة في اليوم الذي تلقى فيه الرسالة التي يضعها في مرتبة دستورية عالية حيث يتوجب التوقف عندها بعد الأزمة المالية الكبيرة التي أصابت البلد وانهيار القيمة الشرائية لليرة، على ان تُفتح الوزارات والمؤسسات والصناديق كافة أمام عملية التدقيق الجنائي من دون استثناء.
واذا كان من حق رئيس الجمهورية توجيه مثل هذا النوع من الرسائل الى الندوة البرلمانية، الا ان ثمة من يرى ان مضمون الرسالة الاخيرة والغاية منها والخروج بخلاصة حيال التدقيق، يجب ألا تصدر من النواب، ويعتبر كثيرون ان لا علاقة لها بموضوع التدقيق، لا بل ان نواباً ووزراء وقوى سياسية لم تفهم قصد عون. ولا يلتقي هؤلاء بالطبع مع الساعين الى الدفاع عن سياسات المصرف المركزي وحاكمه رياض سلامة وما قام به من هندسات مالية مع المصارف التي لا تؤيد هذا النوع من اعمال التدقيق وكشف حساباتها. وعن اي تدقيق يجري الكلام والجزء الاكبر من الودائع هُرِّب الى الخارج ويستمر وضع السرية المصرفية في موقع قدس الأقداس؟!
لقد لجأ عون الى هذه الخطوة بعد التأكد من ضياع الحكومة وعدم تمكنها من القيام بهذه المهمة، ولا سيما بعد اعتذار شركة “الفاريز ومارسال” عن اجراء التدقيق في حسابات مصرف لبنان وهندساته، وان توقف الشركة عن المضي في تنفيذ عقدها جاء بعد تلقّيها “أمر عمليات” خارجياً للمغادرة ابان وجود حكومة تصريف اعمال وحصول هذا الأمر ليس بعد تأليف حكومة الرئيس سعد الحريري، إذ ستكون وطأة المغادرة ثقيلة عليه لو كان في السرايا أثناء وجود الشركة في البلد. وكان يمكن الاستغناء عن رسالة عون عبر قيام مجلس الوزراء بهذا العمل على اساس ان في امكان السلطة التنفيذية الطلب من الاجهزة القضائية المعنية اخذ الدور المطلوب في التدقيق، وليس السلطة التشريعية التي تقوم بمهمة التشريع والمراقبة، وان رسالة عون كانت سياسية. وفي امكان فريقه السياسي تقديم اقتراح قانون في هذا الشأن بدل توجيه مثل هذه الرسالة. وتقوم الحكومة باتمام هذه العملية من التدقيق من دون الرجوع الى البرلمان وذلك بالتعاون مع ديوان المحاسبة لتحديد حسابات اي وزارة او صندوق والتدقيق في حسابات كل الدولة وكشف تفاصيلها امام الرأي العام، وعلى حاكم مصرف لبنان الاستجابة هنا والرد على كل ما تطلبه الحكومة منه، ولا شيء يعلو سلطتها، وهي قادرة في الاصل على عزله وتعيين شخصية اخرى في هذا المنصب. وفي المقابل، يريد العونيون من رسالة رئيس الجمهورية ألا يستمر البلد في هذا الجدل الدائر حول موضوع التدقيق الجنائي والتوصل الى خلاصة من خلال قانون او صدور توصية وتبنّي النواب لهذا المشروع ليشق طريقه الى التطبيق، وتوضيح مَن هو ضد ومَن هو مع، وان تبنّي تلك الرسالة يحصن دور الحكومة في القيام بأعمال التدقيق وحسم هذا السجال ووضع خريطة طريق للتدقيق الجنائي ليتحمل البرلمان مسؤولياته.
يبقى ان ثمة من يعتقد ان عون “سيندم” على توجيه هذه الرسالة، وانها لن تحقق الهدف المرجو منها حتى لو خرجت الكتل النيابية بالتأكيد على فتح ابواب التدقيق في كل الوزارات والصناديق والمؤسسات وعدم استثناء اي منها، لكن العبرة تبقى رهن توافر آلية التطبيق في ظل الوضع المخيف الذي يشهده اللبنانيون لانهيار المؤسسات بعدما تبخرت ودائعهم في المصارف، في وقت يخرج اصحاب الشأن من مصرفيين وسياسيين ويرددون انها ما زالت في”أمان”!