أستاذة التاريخ الحديث والمعاصر في الجامعة اللبنانية – كلية الآداب
محطات نيوز – هل ما يحدث في العالم العربي ـ الإسلامي، أو ما يسمى “الشرق الأوسط” محض صدفة؟ أم هو بالأحرى فصلٌ جديد من فصول “المسألة الشرقية” وسايكس ـ بيكو، باسم “الشرق أوسطية” أو “المتوسطية” وغيرها من المشاريع في “لعبة الأمم”؟.
الشرق ـ أوسطية صيغة قديمة ـ مستحدثة غايتها إعادة رسم كيانات ومكونات المنطقة الممتدة من الهند إلى المغرب، بما يتوافق مع مصالح القوة العظمى الجديدة (أميركا) الواحدية ـ القطب، بهدف السيطرة على الشرق، أو “العالم القديم”، طمعاً بثرواته، ونفطه، وسوقه، وموقعه (جغرافيته ـ السياسية) انطلاقاً من سياسات غربية، مركزية تجعل الشرق ـ بتعبير إدوار سعيد ـ “شرقاً مختلقاً من الغرب” وموضوعاً “للذات الغربية السامية” المزودة بإرادة القوة والأقتدار، والمتحكمة بالقرار الفكري والعملي (النظري والسياسي).
أما المتوسطية mediterrenisme فهي صيغة ثقافية ـ سياسية فرنسية “فرانكوفونية ” والشرق أوسطية، أو المتوسطية، لا ترى في هذه المنطقة من العالم كيانات ودولاً بالمعنى الغربي لمفهوم الدولة – الأمة (القومية) وإنما كيانات، مُداراة، تابعة، تتحدد بمعيار التبعية للسياسات الغربية المركزية.
وهي تأخذ أشكالاً مختلفة، تارةً باسم الديمقراطية وحقوق الأنسان، و”محو الأمية السياسية” أي تعليم الشعوب على الديمقراطية الاميركية! – أو باسم مشاريع جهنمية مدعومة لغايات أخرى، تقدم على إثارة الفوضى، في خدمة السيطرة، كالقاعدة التي دعمتها الولايات المتحدة الأميركية ضد “الخطر الشيوعي” في أفغانستان لينقلب بعدها السحر على الساحر في 11 أيلول 2001؛ ومشاريع دعم الحروب الإقليمية والأهلية، من لبنان 1975_1976 الذي اشعلها هنري كيسنجر في دعوته إلى “حرب المئة عام” لإضعاف دور لبنان، ككيان ليبرالي، مقابل الكيان الإسرائيلي، ومروراً بإشعال الحرب العراقية – الإيرانية، ووضع يد السيطرة على النفط والغاز والسوق، في هذه المنطقة من العالم. هل من الغريب أن نسمع الربط بين ظهور “حركة داعش” والشرق أوسطية؟ هل “داعش” هي صنيعة الولايات المتحدة وعدوتها في آن معاً؟
من يفتح علبة باندورا، المليئة بالأفاعي والعقارب والعفاريت، ومن يغلقها؟ وهل نظل محكومين “بمنطق الذئب”:
تقول الحكاية الشعبية:
– لقد خلصت لك ابنك من الذئب؟
– وماذا فعلت به؟
– أكلته!؟
ما علاقة “الربيع العربي” بمنطوق إثارة الفوضى في العراق وسوريا، وبتغيير الأنظمة العربية المناوئة للولايات المتحدة الأميركية (ليبيا مثلاً)؟
ألا يمكن اعتبار الربيع العربي نوعاً من “الثورة الثالثة” أو “الموجة الثالثة” حسب تعبير إدوين توفلر صاحب كتاب “الموجة الثالثة” الذي يتحدث عن ثورات “إنقلابية” لا هي تقدمية، ولا رجعية بمنطوق التطور التاريخي، وإنما حركات تغيير راديكالية في خدمة سياسات مركزية موجهة؟
ألا يوجد ثمة علاقة بين نظريات صهيونية كنظرية “الكومنولث العبري” (كفكرة صهيونية تقوم على إرهاق الشرق الأوسط في صراعات داخلية وإشعاله لإشغاله) في حروب دائمة، وأزمات داخلية، وبث الفتن، وتقسيم الأوطان، حتى تبقى اسرائيل دولة يهودية إقليمية “عرّابة” بين مجموعة من الدويلات المفتتة والضعيفة؟
وماذا عن مشروع بين جوريون “تقسيم لبنان”؟
وماذا عن شيمون بيريز صاحب كتاب “الشرق الأوسط الجديد” الذي يقوم على تحالف العقل اليهودي، والمال الرأسمالي (الغربي) والأيدي العاملة العربية الرخيصة! بعد وضع اليد على الثروات والموارد العربية طبعاً؟!
السياسة: من منظور تاريخي نقدي
في مجال علم السياسة تستخدم الإستراتيجية كدلالة على الصراع بين قوتين، ويستغل كل طرف عناصر قوته، وعناصر ضعف الطرف الآخر من أجل تحقيق النصر .
يقول المثل الصيني “إعرف عدوك وإعرف نفسك وخض المعركة مئة مرة تنتصر”.
غير أن الإستراتيجية لا تقوم على منطق الهزيمة العسكرية وحده، وإنما على إرادة الإنتصار والسيطرة والهيمنة. وقد تقوم على الحرب بدون حرب (صن يات صن: فن الحرب) وقد يقوم الانتصار على التفوق السياسي، أو الهيمنة الاقتصادية، وليس مجرد النصر العسكري .
وقد تقوم حالياً، في عصر العولمة على الاستخدام المكثف للحرب الميديائية، بواسطة وسائل الاعلام التي تسيطر على الوعي واللاوعي. ناهيك عن سيطرة “لوبيات” الضغط على صناعة القرار السياسي في العصر الحديث.
يعمل الرأسمال الاحتكاري على استغلال الدول النامية مغتنماً فرصة تخلفها في القطاع الصناعي وانخفاض المستوى المعيشي لمعظم السكان، واعتماد هذه الدول على الاقتصاد الأحادي الجانب لإنتاج أنواع من الخامات الزراعية والمواد الخام (النفط، الغاز، القطن.. الخ).
وقد أخذت الاحتكارات الرأسمالية بالزحف على العالم في بدايات القرن التاسع عشر، بحيث نجد أن عشرة إتحادات كبيرة (كارتلات) من أصل 200 إتحاد إحتكاري كان لها فروع اقتصادية في العالم الثالث، وكانت تمتلك رصيداً هائلاً من رؤوس الأموال، توازي مليارات الدولارات، مما يجعلها توازي أكثر من مجمل الإنتاج الوطني لثلثي دول العالم الثالث. وهي تشرف على خمسين بالمئة من الانتاج الصناعي للدول الرأسمالية، وعلى أكثر من خمسين بالمئة من الانتاج الصناعي للتجارة الداخلية والخارجية .
بناء على الحاجة إلى النفط، ومنابعه كسلعة حيوية، وضعت السياسة الأميركية “الشرق الأوسط” في دائرة السيطرة والهيمنة، المباشرة والغير مباشرة وخططت للسيطرة على منابع النفط، ووضعت في خدمتها مؤسسات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، والبنك الدولي للهيمنة على هذه المنطقة من العالم. وفصّلت “النظام العالمي الجديد” على حاجتها للسيطرة على الموارد (الطاقة، والمال والأسواق في العالم) .
وتقاطعت السياسة الأميركية، مع انشاء “دولة إسرائيل” في المنطقة العربية. وأصبحت إسرائيل الولاية 51 من الولايات المتحدة الأميركية. وحين سُئل جورج بوش كيف يعتبر إسرائيل البعيدة جغرافياً ولاية 51 من الولايات الأميركية المتحدة. أجاب: “أنسيتم أن لدينا جزراً أميركية بعيدة جغرافياً عن الولايات المتحدة”.
وأصبحت رغبة السياسيين الأميركيين، مع مرور الزمن رهينة لإرضاء وكسب “اللوبيات” (قوى الضغط) الصهيونية في الولايات المتحدة، حيث يسعى المرشحون إلى المؤسسات السياسية الأميركية (الرئاسة والكونغرس ومجلس الشيوخ) إلى كسب رضى جماعات الضغط وخاصة في الولايات الكبرى كـ (نيويورك)، حيث يخشى أي مرشح أميركي للرئاسة، إذا ما خسر أصوات المندوبين في هذه الولاية أن يخسر فرصة الوصول إلى سدة رئاسة البيت الأبيض .
واهتمت إسرائيل، بخدمة السياسات الإمبريالية في المنطقة، من ثيودور هرتزل الذي صور في كتابه “دولة اليهود” المنطقة بأنها (واحة الديمقراطية في “الصحراء”) إلى غولدامائير التي دعت إلى إستراتيجية تقوم على السيطرة الاقتصادية والسياسية على المنطقة، لتخفيض نفقات الحروب الباهظة.
وبعد توقيع معاهدة كامب دايفيد وضع الدكتور أسامة خليل وزير الخارجية المصري دراسة بالتعاون مع أرثر جفنون، محافظ البنك المركزي الإسرائيلي، كانت في الحقيقة نسخة من دراسة (الشرق الأوسط عام 2000) وضعها مستشارو غولدامائير.
ويؤكد الدكتور خليل أن شيمون بيريز حمل المشروع نفسه وذهب به إلى أميركا وطلب من الأميركيين “مشروع مارشال” في منطقة الشرق الأوسط، لأنه يدرك بأن قوة الدولة لا تتوقف على مساحتها أو عدد سكانها – وإنما على اقتصادها، وعلى تقدمها التكنولوجي والعلمي، فبدأ بوضع بديل للتوسع الإقليمي، قائم على ضرورة قيام سلام مع الدول العربية لإنشاء سوق شرق أوسطية يضمن ما لا يضمنه عدد الصواريخ .
وهكذا فإنّ الهدف النهائي لبيريز هو أن تكون إسرائيل الكبرى معتمدة على وضع السوق العربية في تصرفها.
ويتضح ذلك من خلال نقاط عدة أهمها:
1 – الوصول إلى السوق العربية الواسعة الزهيدة التكاليف وإقامة المشاريع المشتركة.
2 – الوصول إلى المصادر الطييعية في العالم العربي وخصوصاً الطاقة والمياه.
3 – وقد تحولت الولايات المتحدة الأميركية في أواخر القرن التاسع عشر إلى أكبر دولة متقدمة، وجبارة، من الناحية الاقتصادية، وذلك بسبب التطور السريع للرأسمالية الأميركية. وأدى هذا إلى تحولها إلى قوة إمبيريالية (إمبراطورية) تجمع ما بين هيمنة المال والصناعة والسيطرة على الموارد والأسواق. وقد أدى هذا الوضع الإستراتيجي إلى بروزنظريات إمبريالية تقوم على فكرة السيطرة على العالم والمعمورة. اعتباراً من مشروع مونرو الذي أسسه الرئيس الأميركي في ديسمبر / كانون الأول عبر رسالته للكونغرس الأميركي، وفيها يقول إن “عظمة أميركا وجبروتها تتوقف على ضم الأراضي الجديدة، والتوسع في آسيا والشرق الأقصى، وبقية المناطق في العالم” . وانتهاء بنظريات “نهاية التاريخ” (فرنسيس فوكوياما) التي تنص على انتهاء التاريخ بسيطرة النموذج الليبرالي الأميركي على العالم والمعمورة، و”صدام الحضارات” (صموئيل هنتغنتون) التي تقسم العالم بناء على تصور إثنولوجي عنصري (العرق الأبيض، والأصفر، الكونفوشي، والإسلامي) الذي يقوم عليها صراع الحضارات.
والاهتمام الأميركي بثروات المنطقة العربية و”الشرق أوسطية” يعود إلى بدايات القرن العشرين (1928) عندما توصلت الشركات النفطية إلى اكتشافات ضخمة في مجال النفط وُضعت تحت اسم “الخط الأحمر” (خط الإمتيازات الأحمر في احتكار التنقيب عن النفط، وإنتاجه وتوزيعه).
وأصبح النفط العربي، بعد الحرب العالمية الثانية، مع التطور الصناعي والتكنولوجي الذي يعتمد على النفط (مقابل البخار قبلاً، في القرن التاسع عشر) أساس ومناط التطور الاقتصادي في العصر الحديث. وصار النفط “سلعة إستراتيجية في العالم، في منطقة تشكل فيها خامات النفط 7% من الاحتياط العالمي، و66 % من استهلاك كل من اليابان وأوربا الغربية، و50 % من استيراد الولايات المتحدة الأميركية.
نحو “شرق أوسطية – جديدة”
بعد مرور مئة عام على قيام الحرب العالمية الأولى، لا يزال “الشرق الأوسط” ـ بحسب التسمية الغربية ـ عرضة لتدخلات، وتداخلات عديدة في هذه المنطقة، وهذه المرّة، لتفتيتها كلوحة البازلpuzzelle وإعادة رسم كياناتها المجزأة، بإعادة تجزيْ المجزأ على أساس إثني (كردي ـ عربي) وطائفي (إسلامي ـ مسيحي ـ يهودي) ومذهبي (سني ـ شيعي).
في العام 1916، عقدت مفاوضات سرية، بين روسيا وفرنسا وانكلترا محورها اقتسام ميراث الدولة العثمانية في اطار “المسألة الشرقية”. لقد افتقرت الدولة العثمانية ـ كما يلاحظ ماركس ـ إلى ذهنية بورجوازية حديثة (ليبرالية) وأدى عدم وجود مفهوم “للملكية والأمن الشخصي للتاجر” إلى انهيارها، ولكن المسألة لم تقتصر على ذلك وإنما تبين أن الدول الغربية، كانت تسعى من خلال هذه الإتفاقية المعقودة بين انكلترا وفرنسا “سايكس ـ بيكو” (مارك سايكس الأنكليزي وجورج بيكو الفرنسي) إلى السيطرة على المنطقة، واقتسامها بحيث تقوم الخارطة الجيوبوليتيكته على إخضاع سوريا للسيادة الفرنسية، والعراق للسيادة الأنكليزية، أما فلسطين فتوضع تحت الإدارة الدولية، تمهيداً لتسليمها لليهود، بناء على الوعد الذي قطعه بلفور، بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
تاريخية مفهوم الشرق الاوسط
استخدم مصطلح الشرق الأوسط إبان الحرب العالمية الثانية (1939ـ1945) ليشمل المشرق العربي ومصر والسودان وتركيا وإيران وأفغانستان. وبعد إنتهاء الحرب، وسع “معهد الشرق الأوسط” الذي تأسس في واشنطن عام 1946 مفهوم “الشرق الأوسط” ليشمل كل من باكستان وآسيا الوسطى والأقطار العربية في شمال إفريقيا.
وبعد احتلال العراق عام 2003 أعيد طرح المشروع من قبل جورج بوش الأبن، بصيغة “الشرق الأوسط الكبير” الذي يشمل “العالم العربي بالاضافة إلى باكستان وافغانستان وإيران وتركيا واسرائيل”، مع العلم أن تقرير اللجنة الأميركية للأمن القومي في القرن الواحد والعشرين، والذي وضع في شباط 2001 يعرّف منطقة “الشرق الأوسط” بأنها المنطقة التي تشمل كلٍ من العالم العربي، إسرائيل، القوقاز، تركيا، آسيا الوسطى، ومنطقة شبه القارة الهندية، وهي المنطقة التي تضم أكبر مستودع للطاقة في العالم.
وبهذا التعريف لا يعود “الشرق الأوسط” مجرد اصطلاح جغرافي، وإنما اصطلاح جيو – إستراتيجي وسياسي واقتصادي، غايته السيطرة على الطاقة في الشرق الأوسط وإعادة رسم خريطته بناء على المصالح الامبريالية ـ الجديدة في هذه المنطقة (التي تحتوي على 65% من احتياط العالم من الطاقة).
عودٌ إلى الجذور
تعود جذور الصراع على “الشرق الأوسط”، إلى التنافس البريطاني ـ الفرنسي، بعد الحروب “الصليبية”، في منتصف القرن السابع عشر، للسيطرة على التجارة العالمية والتحكم بطرق المواصلات.
وكانت الطبقة الحاكمة في انكلترا، وفرنسا، تقدم لليهود تسهيلات مادية، تجمع مابين المصلحة المادية للغرب، والمنظور التوراتي عند اليهود. وأعلن اوليفر كرومويل رئيس الوزراء البريطاني “أن ثمة فائدة مادية، في مقدور الصهاينة تقديمها إلى بريطانيا في المجال التجاري” ولذا اعطاهم تسهيلات، ما لبثت أن أصبحت حركة هدفها مساعدة الصهاينة على الإستيطان في فلسطين؛ وقدمت هذه الحركة عريضة إلى الحكومة الإنكليزية عام 1649 تطالب (بنقل “أبناء اسرائيل” إلى الأرض الموعودة ـ فلسطين ـ لأجدادهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، كي تصبح إرثاً لهم) .
مع ذلك نجد أن أول من طرح جدياً فكرة توطين اليهود في فلسطين ،كان فرنسا في العام 1798، عندما وضعت حكومة الأدارة الفرنسية خطة لإيجاد “كومنولث صهيوني” في فلسطين، إذا ما نجحت الحملة الفرنسية لاحتلال مصر والمشرق العربي (حملة نابليون الأولى) مقابل تقديم الاغنياء الصهاينة القروض المالية وتمويل الحملة الفرنسية بقيادة نابليون .
حدود الدم
في 17 من شهر تموز لعام 2006- إبان حرب تموز- نشرت مجلة “القوات المسلحة الأميركية” مقالاً للضابط الاميركي السابق رالف بيترز بعنوان “حدود الدم” أكد فيه أنه بالرغم من التعايش والتزاوج والأختلاط بين المجموعات الإثنية والدينية [في الشرق الاوسط] لا بد من رسم الحدود، من جديد،لانصاف “الأقليات” والإثنيات، “من منظور ديني وطائفي”!
وارتأى بيترز خارطة جديدة تلغي حدود “سايكس – بيكو” القائمة، بخارطة جديدة، تحل فيها الدولة – الإثنية والطائفية والمذهبية، كتكوينات، محل الدولة – الوطنية القائمة على نسيج تعددي، بالرغم من وجود نسيج قومي أكبرmacro لهذه الدول لا يشمله التحليل الأميركي، لا من قريب ولا من بعيد، (المتحد القومي).
رأى الجنرال بيترز أن الحدود المرسومة لمنطقة الشرق الأوسط من قبل الانتداب الأنكليزي والفرنسي، قامت على “قوميات” على جانبي الحدود أصبحت كتلاً قومية كبرى مبعثرة لعدة دول، بحيث صار يضم الكيان السياسي المستقل اثنيات وطوائف متناحرة.
وهذه الحدود – برأي الكاتب تسبب خللاً وظيفياً داخل الدولة نفسها، وبين الدول، من خلال أعمال لا “أخلاقية” تمارس ضد الأقليات القومية والدينية والإثنية، أو بسبب التطرف الديني والقومي والمذهبي.
إن الاجتماع على أساس الدين والقومية في دولة واحدة، لن يجعل الأقليات سعيدة ومتوافقة. و”القومية الخالصة” أو الطائفة ، وحدها يمكن أن تجد مبرراً لتغيير الحدود ولتشكيل كيان سياسي لها. وللوصول إلى هذه الغاية – برأي الجنرال الاميركي – “لا بد من سفك الدماء”!
وكما تم فصل إسرائيل عن جيرانها العرب لأنها لا يمكنها العيش معهم – وهي المحكومة بعقدة “مسادا”- فإن الطوائف المتباينة لا يمكن أن يجمعها كيان سياسي مستقل.
على أي أساس يقوم مجتمع الولايات المتحدة الاميركية – ما خلا الامبريالية – ألا يقوم على منطق الهجنة وخليط الأجناس والأعراق والملل والنِحل؟
الأكراد على سبيل المثال، يمثلون وفق هذا المنظور، أكبر قومية موزعة على عدة دول “بدون كيان سياسي”، وعليه فإن الخارطة الجديدة، يجب ألا تفوت الفرصة المترتبة على “فراغ القوة” الذي كان يشكله العراق من أجل تصحيح الظلم اللاحق بهم، مستفيدين من سقوط – إسقاط – نظام صدام حسين، لإعطاء الاكراد “دولة قومية” وبهذا يتم تقسيم العراق إلى ثلاث دول جديدة في علم السياسة (كردستان، وسنيستان، وشيعستنان!) مصطلحات كاريكاتورية جديدة في علم السياسة.
وتشتمل دولة كردستان وفق هذا المنظور، على ضم كركوك النفطية وأجزاء من الموصل وخانقين وديالى ،وأجزاء من تركيا، إيران، وسوريا، وأرمينيا، وأذربيجان، على أن تكون دولة موالية للغرب والولايات المتحدة الأميركية.
وتشتمل دولة الشيعة “shite state” على جنوب العراق والجزء الشرقي من السعودية والأجزاء الجنوبية الغربية من ايران (الأهواز) بشكل حزام يحيط بالخليج العربي (على شكل كماشة حول الخليج!).أما الدولة السنية “suni state” فتنشأ على ما تبقى من أرض العراق، وربما تدمج سوريا (لاحظ التشابه بين هذا الوصف، وخارطة داعش الجيوبولتيكية الجامعة بين المناطق السنية في العراق والمناطق السنية في سوريا).
ومقابل الدول الجديدة، يتم تجزئة دول كبرى، كالسعودية، يقتطع منها أجزاء لليمن، والأردن، والدولة الشيعية العربية المزعومة.
وتبقى الكويت وعُمان، بدون تغيير.
أما لبنان فيعطى الساحل السوري – الوجه البحري – تنفيذاً لفكرة “فينيقيا الكبرى”. يا للفتنة!
وتقوم دولة جديدة في الأردن، يضم اليها جزءاً من السعودية وأراضي الضفة والقطاع (الأردن الكبير).
ويتم تجزئة إيران، ويتم اقتطاع أجزاء منها لصالح الدولة الكردية، وأجزاء أخرى (الأهواز) كما ذكرنا، لصالح الدولة الشيعية العربية، وأجزاء لصالح أذربيجان الموحدة، وتحصل على أجزاء من أفغانستان (الفارسية) للدولة الفارسية العتيدة.
الشرق – أفريقية
ماذا عن “أفريقيا العربية”؟ يتحدث الباحث الاسكتلندي توماس براون، في مقال نشرته صحيفة جلاسكو هيرالد (الإسكتلندية) أن وكالة الاستخبارات الأميركية(C I A) ووزارة الدفاع البنتاغون أعدتا خطة بعيدة المدى، خلال سعيها لاحتلال أقليم دارفور (غربي السودان) يستهدف تحويل أقليم دار فور إلى “قاعدة عسكرية أميركية”، تنتشر فيها صواريخ بعيدة ومتوسطة المدى موجهة ناحية مصر وشمال أفريقيا ومنطقة الخليج العربي – الفارسي.
يلفت الباحث الاسكتلندي الانتباه إلى أن أميركا أعدت بالفعل مخطط التقسيم وتعمل على تنفيذه منذ فترة بإثارة الفتن بين المسلمين والمسيحيين، وتشجيع المسيحيين على تصعيد حملتهم لتكوين دولة مسيحية، جنوبي وغربي مصر. وقد نشرت المواقع الأميركية خرائط عدة تؤكد هذا التقسيم وتكشف دور بعض المسيحيين وأقباط المهجر، ومنظمات المجتمع المدني، في تنفيذ تلك المؤامرة الخطيرة.
ومن البديهي أن قيام “دولة مسيحية” الطابع، في جنوب السودان مساحتها (700000 كلم) كانت في هذا السياق من التجزئة الطائفية – الاثنولوجية.
وبعد أن تم فصل الجنوب عن الشمال يتم العمل حالياً على فصل الشرق عن باقي السودان، لتنشأ بالتالي ثلاث دويلات للغرب – عقيدةً وإستراتيجية – يمكنها التحكم بمجرى نهر النيل العظيم، ودولة غربية (دارفور). أما شرق السودان، فالمؤشرات تؤكد أنه بحيرة من النفط ولا يمكن للغرب أن يتركه في أيدي حكومات تناصبه العداء، وتقيم علاقات نشيطة مع الصين وروسيا. وبالنسبة لأفريقيا فإن الخطة المتعلقة بها تقتضي البدء في تنفيذها بعد الإنتهاء من خارطة (الشرق الأوسط الجديد).
ما الغاية من (الشرق الاوسط الجديد)؟
تقوم فكرة “حدود الدم” على أساس إثني يقوم على رابطة الدم والعرق، العنصرية، ولكن بمنظور جغرافي- سياسي اقتصادي.
ويقوم منطوق تجزئة المنطقة – كمطالعة ثانية – على أساس جيو اقتصادي
ومن أجل تحقيق هذه الفكرة، تسعى إلى “إثارة الفوضى” في مناطق وجود الثروات الكبرى في العالم من أجل إعادة تجزئة المنطقة على أساس خارطة إثنية – طائفية – مذهبية، عنصرية تبرر وجود إسرائيل كدولة عرقية في المنطقة، وتتجاهل فكرة القومية العربية، وتقسم الدول على خلفيات عرقية تقسم المقسم وتجزأ المجزأ، وتتصدى للمد الروسي والصين المزعوم في المنطقة، والتحكم بدول صغرى، وفق حسابات زبائنية جزئية.
إن للولايات المتحدة مصالح كبيرة في تقسيم الشرق الأوسط، ولتركيا دور مهم، حيث انها عضو في حلف الناتو، وحليف إستراتيجي لها، وفيها مؤسسة عسكرية ضخمة أصبحت متحررة من الخطر السوفياتي (..)ومشروع “الشرق الأوسط الكبير” يسمح لتركيا بمشاريع “خطوط غاز”، ومشاريع “أنابيب السلام” تجر المياه إلى الجزيرة العربية – واسرائيل طبعاً – وتلك المشاريع تعززها العلاقات مع إسرائيل والاشتراك في المفاوضات المتعددة الأطراف من أجل التسوية مع الكيان الإسرائيلي.
ومقابل فكرة الشرق الأوسط الأميركي، ثمة من يتداول فكرة شرق أوسط روسي وصيني، يقوم على مزاحمة المشروع الأميركي لضبط الجمهوريات المستقلة ببحر قزوين، وطرده من المنطقة.
ومع صعود حركة داعش، وممارستها، الاصولية، التكفيرية، تفيد بعض التقارير بأن الولايات المتحدة هي التي تفتح “علبة باندورا” المليئة بالافاعي، والعقارب، والشياطين القاتلة، لتعود وتدعي السعي لاغلاقها بعد أن تكون قد انتشرت في المنطقة. هذا هو منطوق السياسة الأميركية في المنطقة الساعي إلى إعادة ترتيب الأوضاع فيها، بعد ضرب حركة داعش، وفق “خارطة الدم” وحدودها، لإعادة ترتيب الحدود من جديد.
وها هي وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، المرشحة المحتملة للإنتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، تقول بأن الصعود الكبير لتنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام “داعش” يعود إلى الفشل الغربي في مساعدة ثوار سوريا، وهو ما يتطابق مع تصريح طوني بلير، رئيس الوزراء البريطاني السابق، عن أن الفشل في سوريا هو الذي أوجد “داعش” وليس غزو العراق في العام 2003. وبحسب موقع (ذا أتلنتك) الأميركي فإن كلينتون لم تقبل أو توافق على نظرية أوباما، بعدم القدرة على تغيير الواقع على الأرض في سوريا، وتصف ما يجري في العراق وسوريا بأنه “نتيجة الفشل الاميركي”، وبسبب قرار إبقاء الولايات المتحدة على الحياد في المرحلة الأولى من “الثورة السورية” وهو ما أدى إلى تقديم استقالتها من وزارة الخارجية.
ترى كلينتون أن الفشل في بناء قوات ذات مصداقية من المعارضين لنظام بشار الأسد تضم الإسلاميين والعلمانيين ومختلف مكونات منطقة الشرق الأوسط، هو الذي أوجد فراغاً ملأه الجهاديون، الأن (حركة داعش) .
ومن الواضح أن موقف هيلاري كلينتون، ونقدها لاوباما، هو تمهيد لدور رئاسي، لخلافة أوباما من موقع الصقور، في المرحلة اللاحقة.
المتوسطية
وتأتي المتوسطية – النسخة الفرنسية عن الشرق الاوسط الجديد – للتأكيد في مشروعها “الإتحاد من أجل المتوسط” في السيطرة على أسواق الجنوب، جنوب المتوسط، والانتقال الحر للبضائع ورؤوس الأموال، مع فرض رقابة على انتقال البشر أو الهجرة إلى أوربا، في أحلام نابوليونية ثقافية “تعتمد على رابطة الفرانكوفونية”.
والسؤال المضاد: متى يدرك العرب مجريات السياسة الدولية، ويسعون الى تحقيق كيانهم وكينونتهم؟!
يقول الحديث الشريف “يوشك ان تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الاكلة على قصعتها” حديث متفق عليه، رواه ثوبان و احمد وابن داوود.
وهو ذا اليوم، “حيث نجد لعبة الأمم” يبلغ سيلها الزبى، وفي غياب مشروع عربي وشرق – أوسطي خاص بالأمة العربية تجدنا ذاهبين – لا محالة – إلى “مزبلة التاريخ”.
لقد حكم العرب – بالإسلام – العالم خمسة قرون ونصف من سنة 950م – إلى القرن الخامس عشر، في مرحلة الصعود. وإذا كنا لا نريد أن تفكر بالعقلية الاستعمارية – الجديدة التي تحكم العالم، فعلى الأقل لا بد من مشروع يعطي المشروعية لهذه الامة، تحقيقاً لرسالة العرب الحديثة، وذلك بإقامة مشروع لهذه المنطقة، يقوم عليه “الشرق الكبير” من خلال التصور الآتي:
– ينقسم الوطن العربي الكبير إلى أربع وحدات جيوبوليتيكية هي المشرق (سوريا الطبيعية) والمغرب (العربي) ووادي النيل (مصر والسودان) تجتمع تحت مشروع فدرالي (اتحاد عربي كبير) بعلم واحد وعملة واحدة (الدينار) وسوق مشتركة، وشبكة اتصالات ومواصلات، من أجل إقامة مجتمع عربي جديد، مناوئ للاستعمار ديمقرطي – ليبرالي تعددي.
– تحويل الجامعة العربية إلى “جامعة ناطقة بالعربية” Arabofonie تدعو الى إتحاد شرقي على اساس الرابطة الثقافية الناطقة بالعربية (لغة القرآن الجامعة).
– تعطي الدول الإسلامية (تركيا وإيران وافغانستان وبقية البلدان الإسلامية) حق الانتماء للجامعة العربية، كعضو مشارك، شريطة الخروج من الاحلاف الغربية (الناتو) وغيرها.
– ويقيم الاتحاد العربي علاقات وطيدة مع مجموعات دول عدم الانحياز، والدول المستقلة (البريكس) المناوئة للاستعمار القديم والجديد.
– تحرير فلسطين، أو على الأقل تغيير خارطة إسرائيل، مؤقتاً، بإقامة دولة متعددة – القومية، سماها البعض “إسراطين” منزوعة السلاح النووي ومندمجة في المنطقة، وفق تصور إبراهيمي وليس إسرائيلي أو صهيوني، وذلك في إطار كونفدرالي (يهودي- عربي) يغير معنى الكيان الصهيوني ومبناه جذرياً.
وللوصول إلى هذه الحالة لا بد من تحويل المجتمع العربي في كل بلدانه إلى “مجتمع مقاومة” سلمي في أوقات السلم، يعتمد على الديمقراطية، والحرية، والتقدم، وحربي في أوقات الحرب والثورة، ضد قوى الاستعمار، والردة والأصولية التكفيرية.
***
قائمة بالمصادر والمراجع
– إيرينا بوناماريونا، مباديء السياسة الأميركية العالمية، نفوستي، موسكو، 1989.
– بطرس غالي، الأبعاد الجديدة للإستراتيجية الدولية، مجلة السياسة الدولية، العدد 4، القاهرة 1961.
– شيمون بيريز، الشرق الأوسط الجديد، دار الشروق، عمان 1986
– علي وهب، الصراع الدولي على الشرق الأوسط، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت 2013.
– منير شفيق، علم الحرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1972.
– كلوتشوفسكي، الاستعمار الاقتصادي الجديد، دار التقدم، موسكو 1975.
– H.Clinton, Hard choices, Simon and Schuster, New York 2014.
-Walid Khalidi, From Haven to Conquests : Reading in Zionism and the Palestine problem, C.P.R Beirut, 1971
– الفرنكفونية هي منظمة للدول والمنظمات والمؤسسات والأفراد، الناطقة بالفرنسية، تعتبر الانتماء لحوض البحر الابيض المتوسط بديلاً وصنواً للوطن والمواطنية، وهي نوع من المواطنية العوالمية (الكوزموبوليتية).
– منير شفيق علم الحرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1972. ص 17
– بطرس غالي: الأبعاد الجديدة للإستراتيجية الدولية، مجلة السياسة الدولية، العدد 4، القاهرة 1961 ص 615 -616.
– كلوتشوفسكي، الاستعمار الاقتصادي الجديد، دار التقدم، موسكو، 1975، ص 8- 10
– Mark Whitaker. A winkle in the New order. News Week. March, 1991 p.41
– Walid Khalidi, From Haven to conquest: Reading in Zionism and the Palestine problem until 1948, Beirut 1971. P. 556 – 558.
– أميركا والشرق الأوسط الجديد. دار العلم د. محمد قبيسي بيروت 1997، ص 23.
– إيرينا بوناماريونا، مبادئ السياسة الأميركية العالمية، نوفوستي، موسكو، 1989، ص 11 – 12.
– شيمون بيريز ـ الشرق الأوسط الجديد، دار الشروق، عمان 1986
– انظر د. علي وهب. الصراع الدولي للسيطرة على الشرق الأوسط، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، ط 1، 2013، ص 20.
– المرجع السابق، صفحة 20 .
– ووفق هذه الرؤيا لا تقوم التقسيمات على أساس خرائط معدة – وإن كان قد جرى إعداد العديد من الخرائط بهذا الصدد – وإنما بناءً على أساس وقائع ديموغرافية (دينية، وقومية، ومذهبية).
– انظر كتابها الجديد: هيلاري كلينتون “الخيارات الصعبة”:
Hillary Clinton, Hard Choices. Simon and Schuster. New York 2014 p:117.