الآمال كبيرة على الرغم من تغيير مكان الحفر – العميد المتقاعد غازي محمود

تواجه عملية الحفر في الرقعة رقم ٩ صعوبات تحول دون متابعة الحفر الذي كانت قد باشرته منصة الحفر Transocean Barents في الرابع والعشرين من شهر آب الماضي، في المكان نفسه الذي بدأ فيه، بعد ان وصلت الى الرقعة في الخامس عشر من الشهر عينه. الامر الذي أدى الى اصدار قرار بتعديل موقع الحفر بناءً على طلب الشركة المشغلة Total Energies. علماً أنه لم يكن قد مضى على مباشرة اعمال الحفر اثنا عشر يومأ، فيما اقتصر عمق الحفر على ٣٥ متراً فقط.

اما الأسباب التي حالت دون استمرار الحفر بحسب الشركة المُشغلة، فهي طبيعة الصخور الموجودة في مكان الحفر التي حالت دون إدخال قميص الحديد المخصصة لحماية الفتحة ومتابعة الحفر، مما استوجب طلب الشركة نقل الحفر الى مكان آخر على مقربة من الأول. ويأتي هذا القرار في الوقت الذي جرى فيه إشاعة أجواء إيجابية حول قرب التوصل الى مؤشرات حول توافر الغاز والنفط في المراحل الأولى من الحفر وقبل الوصول الى العمق المخطط له من قبل الشركة المشغلة.

هذا التطور السلبي في أعمال الحفر هو من التطورات الروتينية التي تواجه عمليات استكشاف النفط والغاز، حتى في الأماكن القريبة من بعضها البعض جغرافياً، والتي قد يكون لكلٍ منها ظروف جيولوجية مختلفة تماماً. غير أن ما يزيد من الأثر السلبي لمثل هذه التطورات هو زيادة منسوب عدم اليقين في التوصل الى نتائج إيجابية بالسرعة المرجوة، والزيادة في التكلفة الاجمالية لأعمال الاستكشاف.
وقد جاء نقل مكان الحفر ليزيد من الوقت الضروري لإنهاء الاعمال التي يتطلبها استكشاف مكامن النفط والغاز، التي كان من المتوقع أن تستغرق مهلة زمنية لا تتعدى الـ ٦٨ يوماً. والحاجة للوقت الاضافي يؤخر ايضاً جمع العينات المناسبة من الاتربة والصخور من الطبقات المختلفة التي سيتم حفرها، ليُصار الى دراستها وتحليلها لاستكشاف مكوناتها والتأكد من وجود رواسب نفطية أو غيرها من القرائن التي تدل على احتمال وجود تراكمات من النفط أو الغاز أو الاثنين معاً.

وتجدر الإشارة الى أنه قد لا تكون حاسمة المعطيات المجمعة من عينات بئر استكشافية واحدة، في تأكيد او نفي توافر مخزوناتٍ هيدروكربونية. ما يستلزم حفر بئر استكشافي إضافي او أكثر لتوفير ما يكفي من المعطيات حول وجود النفط والغاز في البقعة المستهدفة بالحفر ام لا، وتحديد حجم الاحتياطيات المؤكدة منها ومدى قابلية استخراجها. مع العلم أن عمليات استكشاف النفط والغاز تستدعي أن تلجأ الشركات المشغلة الى حفر ما لا يقل عن ثلاثة آبار في البقعة المستكشفة لدحض الشك باليقين، وأن معدل نجاح الحفر يبلغ قُرابة بئر واحد الى كل خمس آبار.

وفي المقابل، ومن اجل اختصار الوقت الضروري للمباشرة بالإنتاج يتم في بعض الاحيان تحويل وحدات الحفر البحرية إلى منصات إنتاج، فتتحول هذه المنصات من التنقيب عن النفط إلى استخراجه بمجرد اكتشافه. كما يتم للهدف نفسه تطوير الآبار الاستكشافية الناجحة الى آبار انتاج، ما يُساعد على الحد من التكاليف التي تتطلبها اعمال الحفر الإضافية. ونظرا الى اهمية الوصول الى الاحتياطيات المؤكدة بأقل عدد ممكن من حفر الآبار الاستكشافية، تعتمد شركات التنقيب بشكل متزايد على التكنولوجيا المتطورة وتستثمر بكثافة في تحليل البيانات واستخدام إنترنت الأشياء (Internet of Things) في اعمالها.
ويرتبط توافر النفط والغاز في مكان معين بوجود نظام نفطي، والذي يتكون من جميع العناصر والعمليات الجيولوجية التي تعتبر ضرورية للتراكم النفطي. اما عناصر النظام النفطي الجيولوجية المطلوبة فهي صخرة المصدر، وصخرة الخزان، والمصيدة، والختم او صخرة الاغلاق، في حين أن العمليات الجيولوجية هي تكوين المصائد، والتوليد، والهجرة، والتراكم، والحفظ. ومكونات النظام النفطي هي أيضاً طبقية وزمانية ومكانية، حيث يجب أن تحدث العناصر والعمليات في المكان المناسب وفي الوقت المناسب لإنتاج البترول وتراكمه.

أما العنصر الأساسي في النظام النفطي من وجهة نظر الجيوكيمياء البترولية فهو صخرة المصدر، وهي الصخرة التي تولد او تنتج النفط او الغاز. وتأتي تسمية “صخرة المصدر” من كونها مصدر الموارد النفطية ومكان تكونها، وكلما نضجت هذه الصخرة كلما انتجت المواد النفطية ودفعتها للهجرة الى المصيدة. وتتكون صخرة المصدر إما من الحجر الجيري وإما من الصخر الزيتي اللذان يُشكلان النوع الرئيسي من صخور المصدر. ويُعتبر ربط عناصر النظام النفطي بعمليات جيولوجيا النفط واحدة من الطرق الفعالة للاستكشاف، والتمييز بين المكامن التي تحتوي على النفط والغاز والمكامن الجافة.

والمكون الثاني من مكونات النظام النفطي هو صخرة الخزان، حيث تتراكم المواد النفطية التي هاجرت من صخرة المصدر لتتجمع في صخور مسامية وتستقر فيها بفضل صخرة الاغلاق. والمصيدة هي عبارة عن ميزة هيكلية أو طبقية تضمن وضعًا ثابتاً للختم والخزان مما يمنع تسرب النفط والغاز. اما صخرة الاغلاق والتي تُشكل العنصر الرابع في النظام النفطي، فهي عبارة عن صخرة أو مجموعة صخور مانعة للتسرب التي تحول دون تسرب هذه التراكمات الى خارج المصيدة.

وفي هذا الإطار، تؤكد الاكتشافات الهيدروكربونية الأخيرة في الحوض الشرقي للبحر الابيض المتوسط الاحتمالات المرتفعة لتوافر النفط والغاز تحت المياه اللبنانية. سيما وأن الاكتشافات الأخيرة في المياه الفلسطينية بالإضافة إلى العديد من الاكتشافات الأخرى بالقرب من المنحدر القاري الحديث تعزز وجود صخرة مصدر فعالة واحدة على الأقل. ومع ذلك، بالنظر إلى النظيرات الإقليمية لصخور المصدر وتطور الحوض، فمن المحتمل أن يكون هناك العديد من صخور المصدر المنتجة.

وفي الوقت الذي كان ينتظر بعض المتابعين حصول مفاجئات سارة خلال عملية الحفر، مثل أن يخرج الغاز او النفط خلال الحفر وقبل الوصول الى العمق المستهدف، طلبت الشركة المشغلة تبديل مكان الحفر الى مكانٍ آخر. وعلى الرغم من أن تعديل مكان الحفر الذي تم اقراره هو تعديل طفيف نظراً لقرب المكان الجديد من المكان الأول، وتقتصر ارتداداته من الناحية الفعلية على الوقت والكلفة. إلا أن الوقت يمر ثقيلاً على اللبنانيين الذين ينتظرون بفارغ الصبر استخراج الغاز الموعود لعله يحمل معه حلاً لمشاكلهم المالية والاقتصادية المتفاقمة.

في المقابل، قد تكون المخاوف التي سببها تعديل مكان الحفر مبررة، خاصة وأن تجربة الرقعة رقم ٤ لم يطوها النسيان بعد سيما وأن الشركة المشغلة في الرقعة رقم ٩ هي نفسها Total Energies. إلا أن هذه المخاوف يجب ألا تتخطى جملة وقائع تجاهلها يُجافي الحقيقة، أولها أن الحفر لا زال في بداياته ومن المبكر جداً القول ان التوقف عن متابعته بسبب تقاطعه مع أحد شرايين الآبار الإسرائيلية علماً أن حصة إسرائيل في بئر قانا الموعود مضمونة باتفاق الترسيم الذي سبق ووقعه لبنان.

غير أن ما يدعو الى الاستغراب هو المسافة القصيرة جداً بين المكانين الأول والثاني، حيث من الصعب ألا يكون للصخرة التي حالت دون متابعة الحفر في المكان الأول امتداد الى المكان الجديد. ما يعني انه كان على الشركة المشغلة أن تطلب نقل مكان الحفر الى مسافة تضمن من خلالها تفادي مصادفة الصخرة المانعة أو مثيلاتها من اعتراض الحفر في المكان الجديد.

وإذا كان من الصعب معرفة الدوافع الحقيقية لتعديل أو نقل مكان الحفر، إلا أن مفاعيله تبقى محدودة لكونه يحصل في الأيام الأولى من الحفر. ولو أن هذا النقل تم بعدما أصبح الحفر في مراحل متقدمة، كان سيعطي إشارات سلبية حول الاحتياطات المتوقعة في الرقعة ككل على غرار ما حصل في الرقعة رقم ٤. في المقابل، التحلي بالمسؤولية تفترض عدم استباق انتهاء الحفر والتبشير بقرب الوصول الى اكتشاف احتياطات مشجعة من النفط والغاز وتحديد المهل الزمنية.
وبغض النظر عن نقل مكان الحفر وتداعياته لجهة التكلفة والوقت، تبقى احتمالات اكتشاف احتياطات تجارية في الرقعة رقم ٩ كبيرة، وذلك بحسب نتائج المسوحات الزلزالية التي قامت بها شركة Spectrum في العام ٢٠١٢، وصرحت على أثره بوجود نحو ٢,٥ تريليون قدم مكعب (Tcf) من الغاز الطبيعي، واعتبرت ان الاحتياطات المتوافرة في تلك المنطقة هي من أغنى وأفضل احتياطيات الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط.

وتكفي الإشارة الى أن الائتلاف المكون من توتال Total Energies الفرنسية وENI الإيطالية وقطر للطاقة، تقدم بطلبي اشتراك في دورة التراخيص الثانية للمزايدة على الرقعتين ٨ و١٠ في المياه البحرية اللبنانية، يوم الاثنين الفائت الموافق ٢/١٠/٢٠٢٣ وقبل ساعة واحدة من انتهاء موعد تقديم الطلبات، للدلالة على ما يُمكن أن تكتنزه هذه الرقع من احتياطات هيدروكربونية. سيما وأن الشركات التي يتكون منها الائتلاف مقدم الطلبين هي أصحاب حق بترولي في الرقعتين ٤ و٩ من مياه المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية.

العميد المتقاعد غازي محمود

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إضغط هنا

أحدث المقالات