محطات نيوز – شربل سلامة
كنا على موعد أمس السبت 9 تموز عند الساعة التاسعة مع أول أوبرا باللغة العربية “عنتر وعبلة” على مسرح كازينو لبنان ليبرتو د.أنطوان معلوف وتأليف موسيقي مارون الراعي وإخراج ميرانا نعيمه وجوزيف ساسين وبطولة المخضرم غسان صليبا.
ولا تكون الأوبرا إلاّ بالليبرتو أي النّصّ الأوبرالي الذي كتبه الأديب والمسرحيّ الكبير د.أنطوان معلوف باللغة العربية الفصحى لتكون الأوبرا الجديّة الأولى المكتوبة بهذه اللّغة. ومن المعروف ان للمعلوف باع طويل من الكتابات المسرحية والدراسات والأبحاث و هو الذي تألق وسطع نجمه في مسرحية الإزميل التي عرضت في بعلبكّ. لقد استطاع المعلوف في أوبرا عنتر وعبلة أن يضيء على جوانب عديدة من حياة هذا البطل “عنتر” وحبيبته ” عبلة” أهمّها العنصرية تجاه عنتر ذي اللّون الأسود من أمّ حبشيّة وما تعرّض له من قمعٍ وظلمٍ خصوصاً أنه سعى طيلة حياته إلى أن يتزوّج عشيقته عبلة فخاض الحروب وجال وصال حتّى يقنع عمّها بأن يزوّجه عبلة.
ولكل مغرم يخال نفسه عنتر عبلة في مكان ما، إنها سيدة الغناء الأوبرالي لارا جوخدار التي أبدعت غناءً وحضوراً وتمثيلاً وبدت على المسرح كأميرة يعشقها كل عنتر عاشق يبحث عن عبلة له من خلال جمال طلتها وصوتها الصادح الذي يخرق القلوب.
كما كان للسبرانو كونسوال الحاج “سلمى صديقة عبلة” حضور لافت وتألق كبير في التمثيل ممزوج بروعة صوتها الملائكي وبعض اللمسات التمثيلية التي اضافة نوعََا من البسمة على وجوه الحضور
كما أنّ الأزياء التي ارتداها الممثلون رائعة من حيث تناسبها مع العصر الذي تجري فيه الأحداث، فكان الكورس مع المغنيّن لوحة ملوّنة بجميع الألوان.
الحضور تفاعل بشكل كبير مع الأوبرا فعلا التصفيق مراراً وكأنّه لا يريد لها أن تنتهي. وتنوّع الحضور بين رجال أمن وثقافة وفنّ وإعلام وأصدقاء.
في ديكور مسرحي يحاكي الصحراء ومضارب القبائل، وملابس وتفاصيل تستعيد حياة العرب في البادية، وعلى أنغام أوركسترا غربية طعمت بإيقاعات شرقية بقيادة الراعي، تتوالى فصول حكاية عنترة بن شداد الذي عاش في القرن السادس وكان أحد أرق شعراء العرب وأشرس فرسانهم على الإطلاق، وحبيبته عبلة التي خلدتها قصائده على مدى الأزمان.
وإذا كان والده شداد (ابراهيم ابراهيم) لا تحركه مشاعر الأبوة للاعتراف بابنه وعتقه من العبودية، ولا ينصت لعذابات عبلة (لارا جوخدار) في الأسر، ولا لأصوات أطفال القبيلة وهم ينشدون له أن “الأرض بستان ألوان”، فإن ضرورة الاستعانة بشراسة عنتر القتالية للدفاع عن القبيلة، تجبره أخيرا على ذلك.
ومع غلبة عنتر في المعركة، ينتهي الذل المخيم على قبيلته والبعد القسري عن حبيبته، وتنطوي عقلية التمييز على أساس اللون أو العرق من أذهان سادة قبيلته عبس، وتطوى أيضا صفحة الحرب مع قبيلة طي.
الذين اتيح لهم حضور احدى حفلتي الجمعة والسبت (8 و 9 تموز) على مسرح كازينو لبنان، خرجوا مع نهاية العمل مشبعين بمتعة الفن، ربما لم ينتبه الكثيرون الى المسافة التي تفصلنا عن انسانيتنا، والتي يصعب محوها او اختزالها بغير الفن، فهذا التوحش الذي يكتسح مجتمعاتنا ودولنا العربية، لايمكن مجابهته بغير الابداع الفني، بما هو ارتقاء انساني الى مصاف اعلى، او محاولة التشبه بالخالق الذي اراد للانسان ان يكون على صورته
أوبرا “عنتر وعبلة” ثمرة عام من التأليف الموسيقي وعام من التدريب لمئة وثلاثين فنانا على المسرح، الى جانب نحو ثلاثين خلف الكواليس، لكنها أيضا “ثمرة مناهج وضعها كبار الاساتذة وتبناها المعهد الوطني العالي للموسيقى، وهي مناهج تقوم على احترام اللفظ العربي السليم”، بحسب الراعي.
وبحسب القيمين على هذا العمل، فإن العالم العربي يعيش مرحلة انتقالية بين فن “الأوبريت” الذي ساد في القرن العشرين مع أمثال محمد عبد الوهاب في مصر والأخوين الرحباني في لبنان، وبين فن الأوبرا.
ويقول الراعي “أنا مع التجريب في هذا المضمار، هناك تجارب عربية تستحق الاحترام وخصوصا في الضفة الغربية وفي الجزائر… ما قمنا به هو اختبار نترك للرأي العام أن يحكم عليه، لكن حتى لو فشلنا لن نتوقف، سنواصل طريقنا في المسرح الغنائي، نحتاج الى تجارب كثيرة قبل ان يفتتح عصر الاوبرا حقيقة في بلادنا”.
ويقول الراعي الذي يشغل منصب المدير الفني للمؤسسة، إضافة الى كونه استاذا في المعهد الموسيقي وعدد من الجامعات اللبنانية “كثيرون يفكرون في الاستثمار في المطاعم، لكن هؤلاء الاشخاص فضلوا الاستثمار في البشر”.
ليس صحيحاً ما يُقال عن أنَّ الفترة الفنية الذهبية في لبنان قد ولّت إلى غير رجعة، لأنَّ هذا البلد الصغير بجغرافيته فقط لا يزال يصدّر إبداعات تؤكّد أنَّه لا يزال منارة للشرق. وإذا فقدت البلاد أهم الشخصيات التي ظهّرت صورتها بأزهى حُلّة، أمثال منصور الرحباني، ريمون جبارة، وليد غلمية وغيرهم، فهذا لا يعني أنَّ ليس ثمة من طاقات شبابية مُميزة تجهد لإعادة ترميم وجه لبنان البهي بعدما شوّهته السياسة، وذلك عبر الفن الأصيل.
هذا هو لبنان الذي ننتظر، هذا هو الفن الراقي، وهذا ما كنا نتوقع في تلك الأمسية، فهنيئآ للكل بما شاهد.