محطات نيوز – تنازعني شعوران، متناقضان طبعًا، وأنا أشارك في افتتاح شارع باسم الكبير سعيد عقل، في الأشرفية، في 4 تموز الجاري، المصادف عيد ميلاده السادس بعد المئة.
شعور عامر بالفرح أننا، على الرغم من كل السواد الغالب علينا ومن حولنا، ما زلنا نحيا في عصر سعيد عقل، وما زال هو بيننا، في صحة جيدة، وفي توقد ذهن مذهل، وإن ندرت إطلالاته بين الناس. تقصده فيحدثك عن لبنان العظمة؛ تعطيه أول كلمة من خماسية له، فيكرُّها غيبًا، وحين ينسى كلمة أو شطرًا، تكون الآنسة ماري روز أميدي (التي يناديها اختصارًا: يا ماري) المترهبنة في مواكبته ومتابعته، حاضرة لإنقاذه، فيضحك أو يبتسم، ثم يتابع.
أكثر من هذا كله… صحيح أنه لم يعد قادرًا على التأليف، لكنه بين حين وآخر يطلع علينا بفلذة أو بيت أو شطر، يضمنه عصارة فكر وخبرة، كأني بما يجترح، رؤيا أو حكمة أو قول سيصبح مضرب مثل. قبل ستة أعوام، وكان بين موت وحياة على سرير المستشفى، نادى على “ماري”، وقال لها: اكتبي. وكتبت: “قداسة وكبر ع المال، هيدا نحنَ فوق جبال”.
هو هو سعيد عقل، فيه من الأنفة وعزة النفس والتعالي على الصغائر، ما يجعل جباه الجبال تنحني أمامه خجلًا.
وقبل أيام قليلة، ألَّف بيت شعر موزونًا على مجزوء الرجز، ودوَّنته “ماري”، على جاري عادتها في التقاط كل كلمة ينطق بها “المعلم”: “يا باعدًا بعد العلى/ هزهز بلادي كلها”. كأنه يعي الخطر الذي ما زال محدقًا بلبنان وشعبه، فتوجه إلى الله المطلق اللامحدود متضرعًا إليه أن يعدَّ لبنان طفله الصغير، فيهدهد سريره لا لينام، بل ليرتاح، ويحميه هو تعالى.
… وفي عيد ميلاده السادس بعد المئة (ثمة تذكرتا هوية باسمه، واحدة تقول إنه من مواليد العام 1912، وأخرى من مواليد العام 1908، وقد ثبت في سجلات الكنيسة المارونية في زحلة، أنه اقتبل سر العماد، العام 1910)، وبمبادرة من جامعة سيدة اللويزة، القيمة على تراثه الذي وهبها إياه، افتتحت بلدية بيروت مشكورة، شارعًا باسم سعيد عقل، قرب حديقة السيوفي في الأشرفية، مجاورًا لشارع يحمل اسم كبير آخر من لبنان، هو الأديب ميخائيل نعيمة.
حين توجه الجميع، من رسميين وأصدقاء وأدباء وفنانين وإعلاميين، وقيمين على المناسبة، لإزاحة الستار عن لوحة الشارع، وتأملت ذاك الشارع، قلت في نفسي: سيكبر باسم سعيد عقل، وستكبر الأشرفية، وبيروت، ولبنان، ولكن يليق بسعيد عقل ما هو أكبر وأكثر.
هنا انتابني شعور الغضب.
كانت شوارعنا تحمل أسماء محتلين وغزاة ومنتدبين، ثم عُدِّلت أسماء بعضها على أسماء شخصيات لبنانية. وقد درجت العادة أن تقام على اسم كل رئيس جمهورية، أي مرة كل ست سنوات (مبدئيًّا) جادة كبيرة تُشق لتصل منطقة بأخرى أو تكون مفصلًا أو محورًا أو تقاطعًا… ناهيك بأوتوسترادات وشوارع طويلة عريضة تحمل أسماء وزراء ونواب وسياسيين وشهداء، من دون أن ننسى طبعًا إطلاق أسماء هؤلاء على صروح أو مؤسسات ومرافق عامة أو قاعات أو معاهد.
قد يكون من حق أهل السياسة أن تسمى شوارع بأسمائهم… حلو الوفا. ولكن كم من هؤلاء يبقى في الذاكرة، أو يستمر فكره أو تأثيره بعد مماته؟ فكل يوم يفرخ لبنان رجل سياسة، ولكن هل يجود علينا، كل يوم، بسعيد عقل وأمثاله؟
الدول المتحضرة تعرف بأغانيها وموسيقاها وشعرها ورسمها ونحتها ومسرحها ورقصها وعمارتها، ومختبراتها وصروحها العلمية ومستشفياتها، وحتى بسجونها… وشهير هو السؤال الذي يتردد دائمًا، ولا جواب عنه إلا لدى قلة قليلة، أو باللجوء إلى الأرشيف: من كان وزير داخلية أو خارجية مثلًا في عصر بيتهوفن؟
من يهمه الأمر؟ هو عصر بيتهوفن، مثلما هو اليوم عصر سعيد عقل الذي ثبت أنه المبدع الوحيد في تاريخ البشرية الذي تخطت سنه المئة، وما زال حاضرًا ذهنيًّا، وقادرًا على العطاء، ولو بحدٍّ أدنى.
لمثل هؤلاء الكبار تقام الصروح وعلى أسمائهم تسمى الشوارع والجادات والساحات، “إذا رحلوا تركوا عطرًا في هذا الكون” (كما كتب سعيد عقل في قصيدته “حكاية الحلوايي” التي لحنها الأخوان رحباني وأدتها فيروز في مسرحية “ناس من ورق”، باسم “دقيت طل الورد ع الشباك”)، لا على اسم سياسيين عابرين، مستنسخين أحدهم عن الآخر… ولست أعمم.
وتسألون بعد ما سبب مصائبنا التي لا تنتهي؟ السبب أن العقل الحاكم في حجم زاروب، لا في حجم أوتوستراد، إن لم نقل في حجم كون.
والمهم أن عقلنا الحاكم ما زال يدرس سلسلة الرتب والرواتب، وأنه ما زال يشكك في وجود “داعش وأخواتها” في لبنان، وأن باله انشغل تعاطفًا – حرام – على إصابة نيمار.
حبيب يونس