حبل – كريستيان بلاّن الخاروف

محطات نيوز – فتاة لم يتجاوز عمرها الخمس سنوات في غرفة تتشاركها مع أختين أخريين؛ الكبرى منهنّ تكبرها بخمسة عشر عاماً بينما الوسطى تبلغ من العمر الثّالثة عشر …

تلعب في الغرفة المشتركة, إذ أنّه طالما أنّ الأب موجود في المنزل فمحرّم على الفتيات التّواجد في الصّالة حيث يشاهد التّلفاز ولا يرغب بمن يزعجه أو يشغله. إلّا إذا نادى واحدة منهنّ فواجبها التّواجد أمامه بأقلّ من ثانية أو…  بالعودة إلى الفتاة الصّغرى فهي تلتزم دوماً الغرفة! تلعب بما تحصل عليه أو ما يتوفّر لها لتلعب به وذلك اليوم لم يتوفّر بين يديها إلّا قطعة من الحبل الأبيض كان الوالد قد رماها في سلّة النّفايات لأنّها لم تعد تنفع لشيء … التقطتها البنت وحاولت أن تشغل وقتها بتمرير الحبل المهترئ بين فواصل أبواب الغرفة المطلّة على الشّرفة وقد حسبت أنّها بذلك لا تؤذي أحداً أو بالأحرى لا تزعج أحداً خاصّةً اختها الوسطى الّتي اعطت لنفسها الصّلاحيّة بقطع أنفاس الجميع في حال أرادت الرّاحة هي الأخرى. ونظراً لكونها مدلّلة الوالد  فكانت لها حقوق لم تكن لتحلم بها الأخريات! كانت الآمرة النّاهية في غياب السّلطة الأبويّة وإن عورضت بشيء ولو بسيط كانت تندفع نحو  والدها عند دخوله البيت لينطق لسانها بالعصيان الحاصل ممّا كان يحمل الوالد إلى إنزال العقوبات بالأخريات لإرضاء مدلّلته…

ويوم الحبل هذا لم ينته هو الآخر على خير إذ وكأنّه لا يكفي أن تكنّ مجبورات على التزام مكانهنّ؛ لا حراكاً يأتين ولا ضجّة ولا حتّى كلمة بينهن لأنّ الطّاغية في الصّالة؛ لقد أرادت الوسطى أن ترتاح هي أيضاً ، كيف لا ويحقّ لها ما لا يحقّ لغيرها في منزلٍ قلّ ما يمكن وصفه بمنزل عائلي … فما المطلوب إذاً؟ لا يمكنكم السؤال… فالإجابة بسيطة ! وكانت الغرفة في صمت كامل وكأنّها في حضرة ميت ؛ يخترق السّكون المخيف ذاك بين الفينة والأخرى حفيف الحبل إن لامس مفصل الباب. حفيف بسيط لحبل مهترئ. ما وجدت طفلة بريئة في منزل يملؤه الغمّ والقهر غير حبل تمتّع نفسها باللّعب به لتقتل الضّجر  والوقت المهدور للحفاظ على راحة الطّاغية وابنته؛ وكأنّها وأختها الكبرى ليستا ابنتيه هما الأخريين …

           سكون قاتل وحياة قاتمة تحيا طفلة صغيرة تركها والدها تحت رحمة أختها. يرضى لها ما ترضاه لها ويحرمها ممّا تحرمها منه…   ويوم الحبل هذا توّج حياة الصغيرة بخوف ما بعده خوف وما لحقها ذاك اليوم من ضرر لسنا نقول الجسديّ بل المعنويّ والنّفسيّ لضرر كبير! إذ لم تتوقّف معاناتها عند صفع اختها ذات الثّالثة عشر عاماً لها على وجهها! لكنّها تخطّت كلّ المعايير! فقد فقدَ الطّاغية السّيطرة على  نفسه عندما اقتحمت ابنته المدلّلة الصّالة تشكو ضجيج اختها وحفيف الحبل على مفصل الباب الخشبيّ. وما كان منه إلّا أن انتفض انتفاضة الوحوش وانطلق قاتلاً أو مقتولاً  نحو الغرفة رامقاً الصّغيرة بنظرة لؤم ما فهمت سببها ودون أن تدري ما الّذي يحصل أو ما جرى, لم تكن هي القاتل! إذ إنهمر عليها بالضّرب إنهمار المطر في يوم عاصف من أيّام الشّتاء ومهما حاولت أن تخبّئ قطعة من جسدها علّها تنجو من ضربة, لم تفلح فالإمساك بها محكم وقد اعتاد الضّرب حتّى تخمد ناره؛ وفي يوم الحبل هذا لم تخمد نيران غضبه إلّا بعد وضعها في السّرير ممسكاً برجليها يضربها بالسّوط الّذي لا يفارق الطّاولة جاهزاً كامل الجهوزيّة جنبه في حال احتاجه لأمر؛ وقد أمسك به ذلك اليوم وانهال على رجليّ الصّغيرة ضرباً وابنته تنظر إليه بعينين ساكنتين ترجوه التّوقّف هي الّتي لم تعد تستطع التّفوّه بأيّ كلمة وقد عجز لسانها عن النّطق وتعطّلت حنجرتها من كثرة الصّراخ طلباً للإستغاثة…

ومع كل ضربة تنظر إلى أختها واقفة لا تردعه عنها ولا حتى تطلب منه التّوقّف! تناجيها الدّفاع عنها لتراها تبتسم منتصرة تهزّ برأسها كما لو كانت تهدّد بمثل هذا المشهد تكراراً لو لم تنصع لأوامرها! لم تدر المسكينة كم من الوقت دام ذلك؛ هل هو حقيقة أو مجرد كابوس ستصحى منه؟ … إلّا أنّها لم تصح من غيبوبتها إلّا لترى نفسها ممدّدة على السّرير ورجليها تنزفان دماً وقد توّرمتا ولم يعد يعرف لهما لون وجسمها محطّم تحطيم  الزّجاج وأخت في الثّالثة عشر من عمرها تحمل كتاب اللّغة العربيّة تتلو الشّعر بصوت عالٍ على أنّها تحاول حفظه لامتحان المدرسة! وما من أحد في المنزل سواها وقد خرج القاتل المعتدي وكأنّ شيئاً لم يكن تاركاً الصّغيرة بين أيدي مجرمةٍ تضحك لخوف اختها وتبتهج لألمها وتبلغ حدّ النشوة لرؤية اختها ممدودة عاجزة عن الإقدام على أيّ أمر تنزف دمعاً يختلط بدمها شلّالات يتمزّق لها القلب وتخشع أمامها المشاعر الإنسانية.

فأين هو الإنسان من الطّاغية وابنته …بقيت الصّغيرة على السّرير لا تأتي بحركة ولا ينبض قلبها إلّا بالدموع الّتي تنهار من عينيها والدّماء الّتي تنهال من قدميها! طيلة بعد الظّهر تنظر إلى ابنة الثّالثة عشر تستنجد بها تطالبها بعينيها  البريئتين المساعدة ولا تلقى استجابة؛ إلى أن وصلت الكبرى من عملها ورأتها على تلك الحال والوسطى تتباهى بفعلتها وتتابع إلقاء الشّعر كأنّ شيئاً لم يكن وبصوت عالٍ يرن باللؤم …

سارعت الكبرى تحتضن أختها الصّغرى تكفّف دمها محاولةً مداواة جراحها الّتي لم تكن بالقليلة! وإن استطاعت مداواة الجسد من الضّرر،فمن يداوي ويضمّد الأضرار الأخرى …

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إضغط هنا

أحدث المقالات