عوده: الحصانة تسقط أمام الحس بالمسؤولية الوطنية والواجب الإنساني
نشرت بواسطة: Imad Jambeih
في الأخبار, تقارير
الأحد, 11 يوليو 2021, 12:58
69 زيارة
محطات نيوز – ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده، قداس الأحد في كاتدرائية القديس جاورجيوس في بيروت.
بعد الإنجيل، قال في عظته: “نعرف تماما أن الطمع يدمر الطبيعة. فرغبة الإنسان الدائمة في زيادة الممتلكات، وإنفاقه أضعاف ما يحتاج إليه قد أخلا بتوازن البيئة الطبيعية. لقد اعتاد البشر، كلما طرأت مشكلة ما، أن يبتدعوا نظريات فلسفية وأساليب لمواجهتها، إلا أن حل المشاكل لا يكمن في النظريات، لأنها هي أيضا تخلق المشاكل، وفيها انتهاك للحقيقة. كل نظرية إيديولوجية بشرية هي ديكتاتورية روحية تعيق رؤيتنا الواضحة للأمور. حل المشاكل يكمن في مكان آخر، أي في علاج تفكك الإنسان الداخلي الذي منه تنبع المشاكل”.
أضاف: “تدلنا قراءة إنجيل اليوم على السبب الحقيقي للشر الذي يزعزع عناصر الطبيعة: إنه قلق الإنسان من أجل الطعام واللباس، واضطرابه من السؤال: ماذا سآكل وأشرب أو ماذا سألبس؟ يتحول هذا السؤال عذابا يقض مضجع الإنسان عندما تنقسم نفسه بين الله والمال، أي عندما لا يضع كل رجائه على الله، بل يعتمد بالأكثر في حياته على الغنى، ظانا أنه ضمانة المأكل واللباس، والراحة بشكل عام. هنا لا بد من التذكير بأن المال أصبح السبب الأساسي لعدم الراحة، بعدما ضاع كل جنى عمر شعبنا بين أيدي المصارف والتجار والمحتكرين، فأصبح عنصر قلق وتشنج بدلا من الراحة. لنتدكر قول الرب: لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء حيث لا يفسد سوس وصدأ، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون، لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضا (مت 6: 19-21)”.
وتابع: “لا يستطيع أحد أن يعبد ربين كما سمعنا في الإنجيل، أو أن يكون خادما لسيدين. يوضح لنا كلام الرب أن الذين يعتمدون في حياتهم على أمور أو قوى خارجة عن الله، هم في الحقيقة بعيدون عنه جدا. ليس الله سيدهم، بل يعيشون وثنيا، لأن عبادة الأوثان في جوهرها اعتماد على المخلوقات لا على الله. هي الإلتصاق بالخليقة لا بالخالق. ألا تظنون معي أن إنجيل اليوم دينونة لكل لبناني مستميت في الدفاع عن زعيمه وتأليهه، بدلا من الإعتراف بألوهة الله فقط، وحب هذا الوطن الذي منحنا إياه، والإستماتة في الدفاع عنه، وطنا لجميع أبنائه، وليس وطنا لمن يرضى عنه الزعماء؟ الكلام الإنجيلي البسيط يبرز أمامنا مسائل صعبة الحل. نرى المسيح يربط العبودية للمال بالإنشغال من أجل الطعام والشراب واللباس. من هنا أتت الوصية: لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون (مت 6: 25). هذه الأمور كلها تبحث عنها الأمم، أي الوثنيون. أما المسيحي فيعمل، متكلا على الله، ومؤمنا أنه لا يتخلى عنه طالما كان قلبه مع الله. لكن المؤسف أن الوضع الذي أوصلنا إليه المسؤولون جعل الشعب لا يفكر إلا بما يأكل ويشرب ويلبس. إنها حيل الشيطان الذي يحاول الإيقاع بنا، لكن الله معنا فلن يكون أحد علينا. المهم أن نجاهد ضد الشيطان وألاعيبه ونعمل بكد لننال الخلاص المرجو.
وسأل: “ما معنى العمل الذي هو وصية من الله؟ إن الله قبل السقوط أعطى الجنة لآدم ليعملها ويحفظها (تك 2: 15)، وبعد السقوط قال له: بعرق جبينك تأكل خبزك (3: 19). تشمل عبارة بعرق جبينك إجتهاد الإنسان من أجل توفير حاجاته. إن عرق الجبين عند البشر يأتي من التعب الجسدي، وأيضا من قلق النفس التي تواجه مشاكل المعيشة الضخمة. لافت أن الله يربط بين عرق الإنسان والموت: بعرق جبينك تأكل خبزك، حتى تعود إلى الأرض التي منها أخذت، لأنك تراب وإلى التراب تعود (3: 19). يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي إن العمل قبل السقوط كان اهتماما بالأمور الإلهية. لكن وصية لا تهتموا لا تعني لا تعملوا أو لا تهتموا بمن أنتم مسؤولون عنهم من أهل وعائلة، إذ نسمع في رسالة بولس الأولى إلى تيموثاوس: إن كان أحد لا يعتني بخاصته… فقد أنكر الإيمان (8: 5). لكن الإهتمام لا يقف عند حدود الماديات، بل تدعونا الكنيسة في كل طلبة من أجل أن نودع أنفسنا وبعضنا بعضا للمسيح الإله، لأننا نؤمن بأن ما لا يستطيع البشر تأمينه، سيؤمنه الرب، إذا كان مناسبا، وطبعا شعرة واحدة من رؤوسنا لن تسقط من دون مشيئته. يطلب منا الرب ألا نهتم، وهو يريد أن ينتزع انتباهنا من الأشياء الخارجية، ويوجهه إلى دواخلنا، حيث ملكوته (لو 17: 21). يريد أن يعتقنا من الإضطرابات الباطلة ويكرسنا للأمور الجوهرية، وأن ننمي العمل الداخلي الذي يحركه أولا البحث عن النعمة الإلهية بالصلاة: أطلبوا أولا ملكوت الله وبره (مت 6: 33)، وسائر الأمور الأخرى ستعطى لكم بلا قلق”.
وقال: “إذا عدنا إلى البيئة التي يدمرها الإنسان بدلا من أن يحفظها بعمله، فإن هذا يحدث لأن البشر فقدوا الحس تجاهها. لقد غلظت المشاعر البشرية وأصبح الإنسان لا يرى الخليقة كعطية من الله، فصار يتمتع بثمارها إنما دون شكر. القلق من المجهول يعذب البشر بضمير مريض. فعندما ننفصل عن الرجاء الحي الذي يولده الإيمان بالله، تؤول بنا الصعوبات إلى الأنانية. لهذا، نحن اليوم نرى البشر يتقاتلون أمام الأفران والمحطات والصيدليات وشتى مصادر الخدمات، لأن مسؤولي هذا الشعب زرعوا في داخلهم القلق من المستقبل المجهول، فأماتوا الضمير الحي الذي وضعه الله داخل كل إنسان. لذلك، نسمع يوميا بأشخاص خزنوا في منازلهم المواد الغذائية، والمحروقات، والأدوية، مانعين إياها عن إخوتهم البشر. أما التجار المحتكرون، فحدثوا بلا حرج عن أفعالهم البعيدة كل البعد من الإنسانية”.
أضاف: “لكي ينهض بلدنا، يجب العمل على إعادة إحياء روح الله داخل أبنائه، مسؤولين ومواطنين، تلك الروح الإلهية-الإنسانية التي تحب الآخر حتى الموت، وبلا مقابل. إن عدم الأمان الذي يشعر به الإنسان يرميه في الإنشغال المضطرب بجمع الغنى والخيرات، وتكديسها، حتى لو كانت ستفسد، عساه يجد ما يؤمن حاجاته. يجب ألا ننسى أن الحضارات التي أقامت وثن الرفاهية المادية مكان الله فقدت الرجاء واندثرت. خلاص بلدنا الوحيد هو في العودة إلى الله، الأمر الذي أراد الإجتماع المسيحي في الفاتيكان أخيرا تذكيرنا به. الحل الوحيد للمشاكل يكمن في وصية لا تهتموا، وفي وضع رجائنا على الله فقط، لا على الرؤساء وبني البشر، الذين ليس عندهم خلاص (مز 146: 3). الكل بحاجة إلى عين بسيطة، عل الجميع يرون محبة الله وقوته في الخليقة كلها، وعنايته في أدق التفاصيل. أنظروا إلى طيور السماء فإنها لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن في الأهراء، وأبوكم السماوي يقوتها. أفلستم أنتم أفضل منها؟ (متى 6: 26)”.
وتابع: “الكل يحتاج إلى نور الإيمان بالمسيح الذي يملأ حياتنا بالرجاء. نحن لا ننتظر رجاء من زعيم أو سياسي، وقد انهار بلدنا بسبب سوء إدارتهم وفسادهم. حتى الجريمة التي أصابت عاصمتنا ما زالت غامضة الأسباب والمسببين. بعد شهر سوف نصلي معا من أجل راحة نفوس الضحايا الأبرياء، الذين سقطوا بسبب الإنفجار، وما زالت دماؤهم تستصرخ العدالة. أملنا أن يتوصل التحقيق قريبا إلى جلاء الحقيقة، كما نأمل أن يكون الجميع في خدمة العدالة لكي ينجلي الغموض القاتل الذي يلف هذه القضية، ولكي ترتاح نفوس الضحايا الذين كانوا مفعمين بالحياة ولم يشاؤوا الموت، لكن الجريمة أودت بهم ظلما وأحرقت قلوب ذويهم. هؤلاء يستحقون أن يضع الجميع أنفسهم وما يعرفون بتصرف التحقيق، ولنتذكر أن لا أحد فوق القانون. وكما قلنا سابقا البريء لا يخشى شيئا ولا يتمسك بحصانته، لأن الحصانة تسقط أمام الحس بالمسؤولية الوطنية والواجب الإنساني، ولأن الشهادة أمام القاضي ليست عيبا، إنما التهرب من الإدلاء بالشهادة مريب، والتشكيك بالتحقيق نسف للتحقيق وطعن للمظلومين. حرام بل جريمة الإستهانة بأرواح اللبنانيين ودمائهم، لذلك من واجب المعنيين عدم المماطلة أو التوقف أمام أي عائق، أو الإختباء وراء أية حجة، وعدم حماية أنفسهم على حساب دماء الضحايا وألم المصابين ودمار العاصمة”.
وقال: “أملنا أن تحظى هذه القضية بتعاون الجميع وتعاطفهم، مواطنين ومسؤولين، وأن لا تتدخل السياسة في عمل القاضي، بل أن يتعاون الجميع معه من أجل إظهار الحقيقة وإحقاق العدالة. ألا يكفي ما خلفته هذه الكارثة من ضحايا ومصابين ودمار؟ أملنا أن يكون المسؤولون قدوة في هذه القضية، وأن يضعوا الشعارات التي أطلقوها موضع التنفيذ، وأن لا يكونوا كمن يستخف بعقولنا. كما نأمل من جميع الزعماء والمسؤولين أن يكفوا عن تبادل الإتهامات، وأن يتوقفوا عن التشاتم والتذابح لأنهم بعملهم هذا يذبحون لبنان. نحن واثقون من عدالة رب السماء والأرض، الذي نقرأ في الكتاب المقدس قوله: لي النقمة، أنا أجازي يقول الرب (رو 12: 19)”.
وختم عوده: “دعوتنا اليوم ألا نفقد الأمل والرجاء، وألا نهتم بل أن نلقي أتعابنا وهمومنا على الرب وهو يعرف كيف ومتى يبلسم جراحنا. في هذا الوقت، علينا أن نعمل بكد، من أجل خلاص أنفسنا أولا، ومن أجل مساعدة إخوتنا في ظل الظروف القاسية التي تمر علينا. جاهدوا، ثابروا، اثبتوا في أرضكم، لا تدعوا أحدا يسلبكم الرجاء ولا الأرض التي أنجبتكم، لأن العدالة آتية لا محالة، والرب سيجازي كل واحد حسب أفعاله. وليتذكر كل مسؤول أن الله يجازي بعدل”.
2021-07-11