سلِّملي عَليه!!!… حبيب يونس

محطات نيوز – تصحَّرت الحياة السياسية والثقافية والفكرية والإعلامية، وسطَّحتها اصطفافات وخلافات عمودية حادة، أكثر مما أغنتها، حتى بات كلٌّ يتمترس خلف أفكاره، وينظر إلى الآخر وفق ما يناسبه هو. فإذا قال هذا الآخر ما يعجبنا ويتماهى معنا في كل شيء، غنَّينا له مع كاظم الساهر “كلك على بعضك حلو”. وإذا خالَفنا حتى في نوع الحذاء الذي يفضِّل هو انتعاله، ردَّدنا له مع فيروز “رووووووووح، يا بلا مربى”. فكيف بك عندما يصل الأمر إلى صاحب “مربى الدَّلال” زياد رحباني الذي على رغم اختلاف كثر مع سياسته وأفكاره وانتمائه، يعترفون له بفرادته في المسرح والنغم والأغنية والعزف والكلمة، والذي على رغم انتماء البعض إلى خطه العقائدي، لا تستهويهم أعماله. هذا كان من زمان، حين لم يكن الانتماء السياسي معيارًا للحكم على إبداع الإنسان، بل الإبداع في حد ذاته هو الفيصل.

أما اليوم فـ”يا ويلو ويا دِلُّو”، إذا تفوَّه بكلمة ليست على ذوق أحدهم، أو عبَّر عن رأي لا يعجب أحدهم آخر، أو أدلى بتصريح أو مقابلة، ليكشف أن أمَّه، فيروزنا الباقية إلى الأبد، تحب الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله، وأنها لو لم تكن تؤيد المقاومة لما لحَّن لها. كان للموضوع أن يمر مرور الكرام ببعض التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي ترفض هذا “الحب”. فالناس أحرار في ما يهوون، مثلما هي فيروز أو زياد رحباني أو مؤيدوهما، أحرار كذلك. وحسنًا فعل السياسيون أنهم لم ينجروا إلى هذه الحملة التي طاولت سيدة لو لم يكن لبنان وطننا، لاختارها كثر منا وطنًا، وكذا هي حال غير لبنانيين أيضًا، مثلما كانت، ذات أغنية، عينا “عصفورة الشجن” وطنَ الرحبانيين وفيروز.

أما أن يتصدر تلك الحملة على سفيرتنا إلى النجوم (شاء من شاء وأبى من أبى) وعلى زياد، وبالتالي على المشروع الرحباني الفني، بعض مَن يسمونهم مفكِّرين ومثقفين وقادة رأي، أي أشخاصًا “مِنشافين”، فهنا لا بد للبوسطة من أن تهدر ليس من حملايا إلى تنورين (قريتي التي صارت أجمل مذ مر ذكرها على لسان فيروز وقبلها وديع الصافي) فحسب، بل ومن شرعة حقوق الإنسان إلى مشكلة هؤلاء القوم المثلثة الأضلاع. فهذه الشرعة تتيح للمرء أن يعبر عن رأيه وتمنحه حرية الدين والمعتقد والتعبير والتفكير والكتابة… وحتى الشتم. وقد عدَّ هؤلاء المثقفون موقف فيروز، الذي لم تصرحه هي، بل نقله عنها نجلها، حقًّا لها… “كَتِّر خيرن”.

لكنهم في ما أبدوه من انزعاج، وبالتالي في ردودهم على من انتقد مواقفهم، من أيقونتنا الحية، أكدوا المؤكد، وهو أن مشكلتهم ليست معها، ولا مع مضمون ما نسب إليها، ولا مع زياد ومشروعه الفني الموسيقي المسرحي السياسي، بل هي، كما أسلفت، مثلثة الأضلاع: – مشكلة مع الذات، لأنهم، إجمالًا، وهم لا يظهرون على الملأ وفي الأوساط العامة وعلى وسائل الإعلام إلَّا وهم يشمُّون رائحة بشعة ولا تضحك وجوههم حتى لـ “الرغيف السخن” وقد أعطوا النعمة استحقاقها، يظنون أن الله الذي خلقهم وكسر القالب، فوَّض إليهم أن يكونوا بدلاء منه على الأرض في كل شاردة وواردة، أستغفره عليًّا عظيمًا. وحدهم يفهمون. ووحدهم يحق لهم ما لا يحق لغيرهم. ووحدهم يا وحدهم، ما قصَّر فيهم الدكتور مخول القاصوف حين اختصرهم بأغنية كتبها ولحنها وأداها، مطلع السبعينات، عنوانها “مثقفون نون”. – مشلكة مع لبنان وطنًا وإنسانًا. نادرًا ما اعترفوا به، وقد عرفت أكتافهم مئة بندقية وبندقية، والوا معها هذا النظام، ثم ذاك، فذلك… وحين خاب أملهم، وسقطت رهاناتهم الواحد تلو الآخر، ظنوا أن المشكلة ليست في هذه الرهانات الخنفشارية، بل في لبنان وكيانه وشعبه، وحتى في ماهية وجوده.

فإلى معرفتهم العميقة وثقافتهم الواسعة، ما زالوا جهلة من طراز رفيع، بتاريخ هذا الوطن العظيم والكبير والرائد، غصبًا عنهم وعمن لا يعجبه هذا الكلام، العظيم والكبير والرائد. وليقرأوا التاريخ، قبل أن يكتبوه. – مشكلة أشار إليها زياد وفيروز في أغنيتها “سلملي عليه”. صحيح أنها أغنية حب وشوق، بأسلوب ملحنها وكاتبها المميز، لكنها تتضمن مقطعين شعريين فريدين بتركيبتهما، ينطبقان على هؤلاء:

المقطع الأول يقول “مدري شو بو، وبعرف شو بو، مطبوعه بذاكرتو، ما تبحثو. عم تبحثو؟ ما تبحثو”. أي “عبث” أن تأخذ منهم حقًّا أو باطلًا، أو أن تناقشهم، أو أن يطلع منهم شيء ينفع.

أما المقطع الثاني فيَرِدُ فيه “واضح شو بو، ما تقول شو بو، عمول حالك مش عارف، ما تحرقصو، بتحرقصو، ما تحرقصو”… أي تجاهلهم، لأن كل كلامهم يندرج في خانة “خالف تُعرَف”، والحكي ما عليه جمرك.

فمن الذي يتبرع بأن يسلِّم لي عليهم… فردًا فردًا، مثقفًا مثقفًا، ويبوس لي أعينهم، عينًا عينًا؟ لعلَّ “الفنان” الذي طالما وُصف بـ”الرومنسي” والذي “تاب”، بعد مسيرة “ناجحة” في عالم الليل، ولاحقًا في عالم الخيل والدم والبيداء والإرهاب، ينبري لهذه المهمة. فيكون فضلُه، إذذاك، كبيرًا عليَّ وعلى أمثالي، وأكون أنا الشاكر له ولأمثاله وأفضاله… ولعل الوطن الذي نادى به “أخونا” الهارب من وجه العدالة، يعجب هؤلاء المثقفين أكثر.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إضغط هنا

أحدث المقالات