محطات نيوز – ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عوده خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس في ساحة النجمة، بمناسبة ذكرى ختانة السيد وتذكار أبينا في القديسين باسيليوس الكبير ورأس السنة، في حضور حشد من المؤمنين. بعد قراءة الإنجيل المقدس ألقى عوده عظة قال فيها: “اليوم رأس السنة الجديدة. إنه اليوم الأول من سنة نرجو أن تكون سلامية، مباركة بحضور الرب فيها. لكن هذا اليوم بالنسبة للمسيحين هو كأي يوم آخر من السنة نعيد فيه إما للرب وعمله الخلاصي أو لقديسين مجدوا الله بحياتهم. هو يوم منحه الرب لنا لنتوب فيه إليه سائلينه بقلب مفعم بالرجاء أن يتقبل توبتنا ويجعلنا من المؤهلين للسير معه والإتحاد به، محررا إيانا من أثقال الخطيئة ومنيرا أذهاننا لنحسن التمييز بين ما هو نافع لخلاصنا ولو كان صعبا، وما هو مسيء لحياتنا رغم سهولته، أي التمييز بين الباب الضيق الذي يؤدي بنا إلى الملكوت وبين الطريق السهل الذي يدخلنا في الخطيئة ونهايتها السقوط”.
اضاف: “أول أيام السنة بالنسبة للمؤمن هو كأي يوم آخر، فيه يحاول أن يرتقي درجة في سلم الفضائل التي يصبو إلى امتلاكها وعيشها ليكون من المختارين. نحن نعيد اليوم لختانة الرب يسوع وللقديس باسيليوس الكبير الذي عاش في القرن الرابع وآمن أن العيش بحسب مشيئة الله هو الذي ينير العقل ويمنح الحكمة وأن كل شيء زائل ما عدا الله.
فبعدما درس على كبار معلمي زمانه التاريخ والشعر والهندسة وعلم الفلك والمنطق والبلاغة والبيان والفلسفة والطب، وبعدما راج صيته وانتفخ كبرياء، خشيت عليه أخته القديسة مكرينا واتهمته بالإستكبار والإدعاء. أثر فيه كلامها إنما ليس إلى حد تغيير حياته، فجاءته الصدمة التي أخرجته من غروره إذ توفي فجأة أخوه نكراتيوس الذي كان أصغر منه وكان أجمل إخوته وأشدهم ذكاء وأوفرهم مواهب. فبان لباسيليوس بطلان المجد الأرضي وتفاهة أمور الدنيا، وانصرف إلى حياة الفضيلة. يقول: “بعدما أمضيت زمنا طويلا في الأباطيل وصرفت عهد شبابي في الكد والجد في تحصيلِ العلوم وبلوغِ حكمة تنكرها الحكمة الإلهية، صحوت يوما كما يصحو النائم من رقاد عميق، ولمحت النور الباهر المشرق من تعليم الإنجيل، فعرفت بطلان الحكمة التي كنت قد تعلمتها وأدركت فراغها وزوالها وأسفت أسفا شديدا على ما مر من عمري حتى الآن… فتشت عن صديق يدلني على طريق التقوى… وأصبح جل اهتمامي أن أعمل على إصلاح أخلاقي بعدما أفسدها طول اختلاطي برفقاء السوء، ثم قرأت الإنجيل ورأيت أن لا سبيل إلى بلوغ الكمال إلا بأن يبيع المرء ما له ويعطي الفقراء نصيبهم ويتخلى عن مطامع الحياة جميعها حتى لا يبقى للنفس ما يعكر صفوها من كل ما في الدنيا”.
وتابع: “عاش القديس باسيليوس حياة النسك والتقشف بعد الرفاهية التي عرفها، وانصرف إلى الصلاة وقراءة الكتاب المقدس وكتب الآباء والتأمل. لم يكن يملك إلا رداء واحدا وكان ينام على الأرض ويقتات من القليل القليل. بعد سنوات النسك سيم شماسا فكاهنا حوالى العام 362 ثم رئيسا لأساقفة قيصرية كبادوكية. وقد عرف بمحبته للضعفاء ومساعدته للفقراء. وعندما حلت بقيصرية الفواجع من العواصف والطوفان والهزات الأرضية فالجفاف، انبرى باسيليوس لعمل الرحمة وباع ما تركه والده من أملاك واشترى بثمنها طعاما للجائعين. وإلى تلك الفترة تعود أبرز مواعظه في شأن العناية بالفقراء. أما أبرز أعماله خلال أسقفيته فكان بناء المدينة الباسيلية التي أقامها عند مدخل مدينة قيصرية وكانت تضم مستشفى ومدارس ودورا للأيتام وملاجئ للبرص وكنائس وفنادق.القديس باسيليوس الكبير كان مثال المسيحي الملتزم، المسيحي الذي يطبق وصايا إلهه ويعيشها، والذي لا يخجل من إعلان إيمانه والشهادة لمسيحه حتى الموت. لم يتورع من القول لمودستس والي المشرق، موفد الإمبراطور الهرطوقي والنس: «أنت حاكم وأحد البارزين، لكني لا أكرمك أكثر مما أكرم إلهي وعندما قال له مودستس بإمكاني أن أصادر ممتلكاتك وأنفيك وأحيلك على التعذيب وأنزل بك عقاب الموت، أجاب باسيليوس: لست أبالي، لا يمكنك أن تصادر مقتنياتي لأني لا أملك شيئا، إلا إذا كنت تريد ثوبي العتيق أو الكتب القليلة التي في مكتبتي. والنفي؟ ماذا يضيرني؟ حيثما حللت في أرض الله هناك يكون منزلي. لا يمكنك أن تنفيني من نعمة الله. والتعذيب لا ينال مني لأنه ليس لي بعد جسد يحتمل التعذيب. ضربة واحدة ويأتيني الموت. أما الموت فمرحى به لأنه يأتي بي سريعا إلى حضرة الله المباركة. (كم هو كبير الشبه بينه وبين القديس اغناطيوس الإنطاكي الذي شاء أن يطحن بين أنياب الأسود ليستعجل لقاء الله). تعجب مودستوس وتحير جدا وأجاب لم يجسر أحد قبل اليوم على مخاطبتي بهذه اللهجة. فقال القديس باسيليوس:ربما لأنك لم تلتقِِ أسقفا قط وإلا لكلمك بالطريقة التي كلمتك بها. نحن الأساقفة قوم ودعاء مسالمون… ولكن في سبيل الله لا نحسب حسابا لشيء، لا للتعذيب ولا للموت. فالتعذيب يقوي عزيمتنا. أهنا، هددنا، إفعل ما يحلو لك. مارس سلطانك علينا ولكن ليسمع الامبراطور كلامي جيدا: لن تقنعنا أبدا بالإنضمام إلى قوى الإثم مهما بلغ تهديدك لنا. هذا ما يجب أن يكون عليه كل مسيحي مؤمن. إنه ضمير العالم، لا يسكت عن خطأ أو ظلم ولا يماشي الإثم ولا يتغاضى عن الشر أو يمالق من أجل مصلحة”.
وقال: “باسيليوس الكبير كان إنسانا ضعيف الجسم لكنه كان قويا في بذر كلمة الله ونشر تعاليمه. علمه الكثير لم يمنعه عن الإستنارة بنور المسيح، وحكمة العالم بالنسبة له كانت جهالة عند الله كما قال بولس الرسول. اكتفى بأن جعل حياته تعبيرا عن الفضائل السماوية. غناه كان في الإستغناء عن كل شيء في سبيل الله. حياته كانت عطاء بلا حدود ومحبة لا متناهية، فكان أن تمجد الله به.ما فضل واحدنا على الآخر غير المحبة؟ فاعملوا على ألا تفتر محبتكم وتذكروا دائما أن إلهنا هو إله المحبة، وقد عيدنا لفائق محبته في الأحد الماضي، ذكرى تجسده هو الذي أخلى ذاته آخذا صورة عبد من أجل خلاص العالم. أما اليوم فنعيد لذكرى ختانته التي تمت في اليوم الثامن لميلاده بحسب الشريعة. واليوم الثامن في التاريخ المقدس رمز للدهر الآتي. إنه اليوم الذي يتجاوز أيام الأسبوع. إنه يوم القيامة، اليوم الذي أصبح فيه كل شيء جديدا. بختانته ختم الطفل الإلهي الماضي وفتح صفحة جديدة. لم تعد الشريعة هي القانون بل المحبة. أصبح هو، الرب يسوع، الألف والياء، البداية والنهاية، الطريق والحق والحياة. وكما قال لأمه مريم ينبغي أن أكون في ما لأبي. علينا جميعا أن نقول ينبغي أن نكون في ما للرب وينبغي أن ينقص كل منا ليزيد هو، ليظهر هو نورا وهداية للجميع”.
اضاف: “في هذا اليوم المبارك أسأل الرب الإله أن يحفظكم جميعا ويجعل سنتكم مباركة بكل أيامها، كما أسأله أن يحفظ حكامنا وجميع معاونيهم وينير سبيلهم ويعضدهم في خدمة هذا الوطن وبنيه، وأن يحل سلامه في هذا البلد وفي قلوب بنيه أجمعين. كما أسأله أن يبسط سلامه في منطقتنا وفي العالم أجمع، لكي يصبح العالم واحة سلام وأمن واستقرار، فلا نعود نشهد حروبا وصراعات أو نسمع عن مجاعات واضطرابات أو عنف وتفجيرات، وانتهاكات لأبسط حقوق الإنسان. هل يجوز أن تنتهك حقوق الإنسان في القرن الحادي والعشرين، هل يجوز أن يقتل إنسان من أجل إيمانه أو معتقده في العصر الذي وصل فيه الإنسان إلى أرقى مستويات العلم والإبداع؟ أليس من أولى أولوياتنا أن يحترم بعضنا حقوق البعض ويحافظ واحدنا على حقوق غيره كما يحافظ على حقوقه؟ كيف نتغنى بأن عهود الظلام قد ولت فيما تنتهك أبسط حقوق الإنسان: حقه في حياة كريمة، حقه في التعبير عن رأيه بحرية، حقه في العيش كما يرتائي، حقه في الإيمان بما يشاء”.
وختم عوده: “صلاتي في هذا اليوم المبارك أن لا يبقى الكلام عن حقوق الإنسان كلاما ونظريات بل أن يصبح حقيقة معاشة فلا تعود الأنانية والمصالح هي الحاكمة بل المحبة والمساواة والعدالة. صلاتي أن تكون أيامنا الآتية أفضل من الماضي، وهذا يكون إن اعتمدنا الحكمة والحق والعدل والخير والرحمة منارات لحياتنا وهذه كلها نابعة من الله الذي هو محبة. الحكمة التي تحلى بها القديس باسيليوس نزلت عليه من فوق، عندما تخلى عن حكمة هذا العالم وشخصت عيناه إلى الله الناظر إلينا في كل حين. من يستلهم الله يستنزل نعمه عليه، أما الشاخصون إلى الأرض، إلى أسفل، فلا يجدون إلا التراب. لذلك الليلة الأخيرة من السنة يجب أن تكون مناسبة للتأمل في كل ما فعلناه في السنة الماضية، والتوبة، والرجاء بأيام أفضل، لا مناسبة للسهر والسكر واللعب واستشارة المنجمين. ألا جعل الرب الإله سنتنا الجديدة مناسبة يتلاقى فيها الوجه بالوجه ويكرم فيها الإنسان الإنسان فلا يحتقر أحد أحدا ولا يؤذي أحد أحدا ولا يحقد أحد على أحد. هذا ما أتمناه للبنانيين جميعا ولأخي الإنسان في أي مكان في العالم أجمع. إنسان اليوم يطمح إلى غزو الكواكب ويفتش عن حياة فيها. أليس حري بنا أن نهتم أولا بمن يحيط بنا؟ بارككم الرب الإله وحفظكم جميعا وبلسم قلوب المعذبين وعزى الحزانى والمضطهدين وشفى المرضى والمتألمين وأعاد المفقودين وسكن في قلوبنا أجمعي”.