شرف، تضحية، وفاء”… هو الشِّعار.
مذ كان جيش لبناني، كان. ومذ كنَّا، فهمناه خطأً، على ما يبدو.
حين يبذل الجندي دمه عن وطنه وأحبَّائه، يكلِّل الشَّرف هامتَه، ويرتقي بالتَّضحية إلى أعلى مراتبها، فيصبح فعله هذا الوفاءَ في حد ذاته… كأنِّي بمن اختار هذا الشِّعار، لم يكن يتوجَّه به إلى الجنديِّ، فهو لزوم ما لا يلزم… بل توجَّه به إلينا، علَّنا نفهم، كيف نكون أوفياء للشَّهادة والدَّم.
فهلَّا كنا يومًا أوفياء؟ وكيف نترجم هذا الوفاء، اليوم بالذات، بعد العمل الإرهابي الذي استهدف الجيش اللُّبناني في الهرمل؟
سبحة الشُّهداء طويلة، وبيوتها حبَّات قلوب ودموع أمَّهات وغُصص آباء، من شهيد الاستقلال الأوَّل سعيد فخر الدين، ليل 11- 12 تشرين الثاني من العام 1943، إلى النقيب إيلي خوري والمجند حمزة الفيطروني، ليل 22 شباط 2014… ومَن بينهما كثرٌ… كأني بهم ترابُ هذه الأرض المقدسة يُزهر كرمى لدمائهم، كأني بهم سورٌ من الجباه العالية يحميها، كأني بهم ذخائرُ وأيقوناتٌ في أعناقنا.
ما من مرة، ارتقى أهل السياسة، في معظمهم، إلى مرتبة هؤلاء الشهداء، إلَّا في ما ندر. سرُّوا ربما بأنَّ الجيش هو الصَّامت الأكبر، فأعملوا قصرَ نظرهم سكاكينَ وخناجرَ في صمته المجروح، وظنوا قماش كراسيهم أغلى ثمنًا من علم يلف نعش شهيد، وقالوا مصالحهم على دمه… ومشوا.
وقماشة هؤلاء السياسيين تعوَّدت مخمل “المعليشية”، فلم يأبهوا يومًا لخطر، أو يتحسبوا، ولا حزموا أمرهم لاستباق حدث جلل، حتى إذا ما وقع، أطلقوا العنان لترف التنظير المخملي والتصريحات الفارغة والتوجيهات الإنشائية والاجتماعات التي لا تسمن ولا تغني من جوع… والاتهامات المتبادلة. فلا درهم وقاية، ولا قنطار علاج، بل عجز مقزِّز كمثل سحنات وجوههم، وهم يتباكون على ما ضاع.
ليس العمل الإرهابي الأخير في الهرمل الذي افتدى به الضابط الخوري والمجند الفيطروني (ومواطن من آل أيوب)، المنطقة، فنجت من مجزرة، هو الأول من نوعه مذ تغاضى هؤلاء السياسيون عن خطر تمدد الإرهاب في لبنان، ولكن عساه يكون الأخير. وسلسلة الأحداث ماثلة للعيان، من قتل القضاة الأربعة في صيدا، مرورًا بمعركة الضنية، فمعركة نهر البارد، فمعركة عبرا… وغيرها، وصولًا إلى مسلسل الأعمال الانتحارية المتنقلة بين الضاحية الجنوبية والهرمل.
وهي أحداث ما كانت لتقع، وتوقِع شهداء من الجيش وجرحى ومعوقين، لولا قصر نظر السياسيين، والبيئة السياسية الحاضنة لمرتكبيها، واستغلال الظرف لتعزيز موقع والانتقام من خصم سياسي، تحت حجج واهية لم تدرك بعد أن شيطان الإرهاب الذي يتخذ من الله راية، لا يحتاج إلى ذرائع كي ينشب أنيابه في أجساد العباد والبلاد.
وبعد؟ هل يبقى هؤلاء السياسيون يتفرجون؟ وهل نسكت عن “فرجتهم” وإلامَ؟
المطلوب اليوم قبل غد، ولو انزعج خاطر المسؤولين “السهرانين” على راحتنا، في منازلهم أو مكاتبهم أو في مطاعم أو مسارح، أو خارج البلاد، وبدلًا من التلهي بخصوماتهم وبمعارك لغوية لصوغ البيان الوزاري، بحيث لا يبدو أن طرفًا فيه تنازل للآخر أو انكسر له، أن يتخذوا خطوة واحدة وحيدة: بيان وزاري من عبارة واحدة تقول إن “كل لبنان ضد الإرهاب”. ثم تمنح الحكومة الجديدة الثقة على أساسه، فيكون أول بند على جدول أعمالها تصحيح أوضاع المؤسسات العسكرية والأمنية، بما فيها شرطة البلديات ومأمورو الأحراج، ويُفتح باب التطوع فيها وتُنشأ ألوية الأنصار، وتجعل كلها بإمرة قائد الجيش، على أن تُعطى الصلاحيات الكاملة للعمل على إيقاف مسلسل القتل المتنقل. فتلجأ القوى العسكرية، بأوامر حازمة، إلى توقيف جميع الذين تشتم منهم رائحة أنهم يقيمون علاقة بجماعات الإرهاب والتكفير، وأنا واثق من أنهم معروفون من أجهزة الأمن والاستخبارات واحدًا واحدًا، أو من يجد لهذه الجماعات تبريرات لأعمالها، في أي منطقة عازلة أقيمت في لبنان، أو من يتهجَّم على الجيش سواء كان في موقع مسؤولية أو مواطنًا عاديًّا، على أن تتولى القيادات الفلسطينية معالجة أمر المشتبه بهم داخل المخيمات، خلال مهلة محددة، فتسلمهم إلى السلطات اللبنانية، وإلَّا فلتتولَّ القوى العسكرية اللبنانية المهمة. وكل من تثبت عليه التهمة يحاكم فورًا، وكل من يُبرأ يطلق فورًا أيضًا.
هو ظرف لا يحتمل تراخيًا أو تأجيلًا أو حسابات أو تسويات، ولا حتى أرجل كراسٍ. وهي ساعة القرار الحاسم قد دقت، وآن أوان الانحناء خجلًا أمام شهادة من بذلوا أرواحهم فداءً عنا في شرف وتضحية. وليكن الوفاء لهم صلاتنا بسبحتهم شهيدًا شهيدًا، وعملَنا الوحيد الأوحد لإنقاذ لبنان، فلا يُستشهدوا مرتين… وكل ما عدا ذلك جريمة وخيانة كبرى وعظمى.
أللهم إني بدأت تساعية صلاتي بتلك السُّبحة.