محطات نيوز – كان يحلو لقريب لي، أرجنتيني، أن يستفزني في تحوير شعر أغنية رحبانية، يقول إنها من أجمل ما سمع في حياته. زار لبنان مرات، وعشقه، وأحب شعبه وعاداته وتقاليده، وعاشر في بلاده لبنانيين كثرًا كان له بينهم أكثر من صديق، لا بل كان من رواد الأندية والجمعيات اللبنانية في الأرجنتين، والحاضر الدائم في احتفالاتها ونشاطاتها.
كان يفهم حواراتنا اللبنانية، ويتفوه بكلمات وعبارات لبنانية كثيرة، ويطلع على سِيَر كبارنا في الفكر والأدب والفن والموسيقى والغناء وأعمالهم، حتى إنه فكر ذات يوم أن يحيا في لبنان ويؤسس فيه عملًا.
لكن قريبي (رحمه الله)، في عودة إلى سبب الإتيان على ذكره، استفزني، مرة، بالقول: وددت دائمًا أن أكون لبنانيًّا لو لم تكونوا كذابين؟ عجبت، وسألته: بمَ كذبنا عليك؟ أجاب: كيف تغني فيروز “نحن والقمر جيران”؟ وإذ كنا في القرية، وقمرها يمشِّط شعر الجبال، قلت له: أنظر أمامك، تعرف. فأطلق ضحكة عالية، وقال: لستم أنتم جيران القمر، إنما… وراح يغني بلبنانية مكسرة: “نيكسون والقمر جيران”. (وللتذكير فحسب، في عهد ذاك الرئيس الأميركي وطئت رجل أول بشري سطح القمر، عام 1969).
فساوانا ذاك القريب مع الأميركيين، في جيرة القمر.
ونسجًا على منوال المقارنات والتساوي المبالغ فيه، كان جدي الفلاح الذي عاش في أرضه وربَّى عيلته الكبيرة من خيرها ومن عرق جبينه، سلطانًا مخفيًّا. كانت تكفيه غلال مواسمه، ولاسيما منها التفاح، ليحيا بكرامة، ولا يتذمر مرة من ضيق أو عوز أو حاجة. وحين كنا نسأله: كم صندوق تفاح جنيت هذه السنة؟ يجيب، ممازحًا: أنا وجارنا أديب عملنا 100 ألف صندوق… حصة جدي منها بالكاد ألف.
ومن جدي، إلى زميل مهنة راح يمشي بيننا متباهيًا متطاوسًا متشاوفًا متعاليًا، مذ بدأ مشروع سوليدير ببيع أسهم. اشترى، وحده بيننا، نحن ثلة أصدقاء دائمين، سهمين، والله العظيم سهمين، فقط سهمين، بعشرين دولارًا أميركيًّا فقط لا غير، جعل سنديهما رفيقي محفظته، يبرزهما أمامنا كلما التقينا. وإذ نسأله: وعلامَ هذا التعالي يا صاح؟ يجيب: أنسيتم أنني شريك رفيق الحريري؟
وكما في قصص الحياة، في واقع الفنون، ومنها الشعر والغناء. كثر يذكرون دور “فضلو” الذي أداه المطرب والممثل موريس عقل في مشهد “فحص الأصوات” في مسرحية “سهرية” لزياد رحباني. عندما حان دوره، دندن على عوده، ثم وضعه جانبًا ليغني “يا جارة الوادي”، فإذا برئيس لجنة التحكيم “المعلم نخلة التنين” (الراحل جوزف صقر)، يرفضه. اعترض “فضلو”، بحجة أنه ملحن ومطرب معروف، فيكف يرسب في الفحص؟ وحين واجهه “المعلم نخلة” بأن الأغنية التي أداها “معروفة”، أجابه: بعرف، أنا كل ألحاني معروفة. قال له “التنين”: أي بس هيدا اللحن لعبد الوهاب. أجابه فضلو: مين قلك لعبد الوهاب؟ زميلي عبد الوهاب… إلخ.
وواقع الشعر والغناء أن يكون سعيد عقل شاعرًا، وشاعرًا كذلك بعض من كتب كلمتين ونشرهما في “ديوان” يُستحسن أن يسمى “ورق كدش”، وأن يكون عاصي رحباني ملحنًا، وملحنين أيضًا من يشنفون آذاننا كل يوم بإبداعاتهم الأقرب إلى قرقعة العظام في دست غمة، منها إلى اللحن والإيقاع.
فهل من ينصف المبدعين بألَّا يحمل اسم مهنتهم إلَّا من هم في مستواهم؟
يبقى، أخيرًا، أنني اكشتفت، فجأة، تساويَّ مع الولايات المتحدة الأميركية. فالدولة الكبرى العظمى، بكل ما أبدعت وأنتجت واحتوت، تساوي مواطنًا لبنانيًّا هو كاتب هذه السطور.
أميركا، من أزمة إلى أزمة، في السياسة والحروب والاقتصاد والمال، دولة هي اليوم بلا موازنة وبلا أجور لكثر من موظفيها… أي إنها دولة مفلسة اليوم.
والداعي لكم بطول العمر… “شرحو”. أي مفلس أنا. هكذا تقول أرقام حساباتي في مصارف لبنان جميعًا، وهكذا تفيدني جيوب كل ملابسي، وهكذا تخبرني محفظتي، وكل درج في خزائن منزلي.
إذًا تساوينا أنا وأميركا. قطبان نحن عالميان… في الإفلاس. ولكن مع فارق وحيد، هو أن أميركا قادرة على أن تطبع، ساعة تشاء، أوراقًا نقدية، بلا تغطية ذهب ولا من يغطُّون، فتعوِّم نفسها، وتتجاوز أزمتها. أما مساويها في الإفلاس، أي الداعي، فيحسب ألف حساب، قبل أن يقتطع مبلغًا مما يجني من مال، سنويًّا، ليطبع ديوانًا أو كتابًا…
لكن الدنيا، على رغم ما سبق، بألف خير، إذ سنبقى “نحن والقمر جيران”… بالإذن من قريبي، ومن ريتشارد نيكسون.