لكلٍّ ليلاه… يغنِّي عليها. وما “ليلى”، قبل أن تكون اسم علم مؤنثًا، سوى الخمر ونشوتها وبدء سكرها. هكذا يقول القاموس. فكأسكم مقفًّى.
أما الهوى… فليس إلا الإرادة أو الشهوة، أو الحب. هكذا أيضًا يقول القاموس، فليحبّ كلٌّ ليلاه، على هواه، مثلما يغني عليها.
وأما الهواء… فهو المفترض بنا أن نتنشقه، شهيقًا وزفيرًا، أي أن نتنفسه، لنحيا، فنستطيع أن يغني كلٌّ على ليلاه ويحبَّها.
… وقد تنفس الهواء كثر. لا بل تنفسوا الصُّعداء، أي بنفس ممدود. “خَيّ”، بعدما كان يُظنَّ أن الشرق الأوسط، وربما العالم، سينفجر من جرَّاء التهديد الأميركي بضرب سوريا، معاقَبةً لها على استخدامها السِّلاح الكيميائي!!!
في حرب الكبار… لا ذنب للطفولة، لكن ثمة أطفالًا يحاولون أن يديروها، كما يخيل إليهم، إما من كراسي حكمهم، وإما من خلف مكاتبهم، وإما بإطلالاتهم البهية على المنابر والشاشات.
هما، أصلًا، كبيران، وخلف كل منهما، لاعبون تتدرج أحجامهم، من كوكب ضخم إلى جرم صغير يدور في فلكه.
- أميركا أوباما – البطة العرجاء، مذ قررت إعادة صياغة العالم على هواها من أجل حكمه والتحكم به – هوَّلت كثيرًا بضربة عسكرية على سوريا، تعرف مسبقًا أنها إن لم تكن قاضية، سترتد نتائجها عليها، وتكتب للخصم المفترض سنين مديدة في عمر حكمه، عملًا بالمثل اللبناني “الضَّربة التي لا تميت… تقوِّي”.
كانت تهول لا لتضرب، بل لأنها كانت “تفاصل” روسيا التي استعادت دورها العالمي قطبًا يواجه القطب الأوحد السابق (أميركا)، على مكاسب أكثر، في سعيهما إلى ترتيب شؤون العالم.
تعرف أميركا أنها مأزومة، اقتصاديًّا وعسكريًّا وأمنيًّا… وصورةً وهيبةً. وتدرك أن روسيا تصعد متأنية إلى القمة من جديد، ومن خلفها حلف يمثل أكثر من نصف الكرة الأرضية، سكانًا واقتصادًا وثروات. ويقول مسؤولون صينيون، في حالها، إنها ستقع، لكن وقوعها دفعة واحدة مضرٌّ، “لذا سنساعدها على الوقوع شيئًا فشيئًا”.
تنفست أميركا على هواها. لا ضربة ولا من يضربون. كأنَّ مشهد التهويل على سوريا مجرد غبار يحجب مفاوضات إسرائيلية – فلسطينية تجرى بسرية تامة. وكأن في استهداف الجارة سوريا كلامًا يراد للكنَّة إيران أن تسمعه… وها قد دار الغزل بين “الشيطان الأكبر” وإحدى أضلاع “محور الشر”.
- روسيا بوتين… الأمبراطورية المستعادة وقيصرها الجديد. ميزان العالم في يدها. نفسها طويل. اقتصادها متين. أمنها مستتب. ولا أزمات فعلية تعانيها. أكثر من ذلك… هي اليوم على صورة رئيسها القيصر فلاديمير لاعب الجودو الماهر، وقد أصر على أن يتخذ وضعًا قتاليًّا، من وحي لعبته المفضلة تلك، وإن بثياب رسمية وربطة عنق، وهو يعلن من منبر قمة العشرين موقفه من التهديد الأميركي بضرب سوريا. وما الجودو؟ هو، مختصَرًا، طريقة الانقياد السهل للدفاع عن النفس، وبالتالي استخدام أقل جهد للوصول إلى أعظم نتيجة. والهدف من تعلمه تطوير الشخصية والعقل والجسد لكي يأتي المرء بأمر مفيد للعالم… وتنفَّست روسيا الصُّعداء، وعلى هواها، بأنها جنبت العالم حربًا.
- أما الآخرون فبكلمات تغني عن كثير شرح: أوروبا المنقسمة على نفسها أصلًا حيال الضربة المفترضة لم ترد أن تكون ملكية أكثر من الملك. الغرب الأبعد قبَّل يد أميركا “وجهًا وقفا” شاكرًا. أصدقاء أميركا الشرق الأوسطيون بلعوا الموسى، ومنهم من بدأ يتحسس رأسه. غلاة العرب المعارضون للنظام السوري وداعمو معارضيه فوجئوا كعادتهم، لكنهم لم يدركوا بعد ولن يدركوا أن ليس بالمال وحده تتحقق الأمنيات. المسماة معارضة سورية تحاكي أبا الهول في “غضبه”. أما النظام السوري البارع في المناورة والمفاوضة، باعتراف خصومه قبل الأصدقاء، فتنفس صعداءه حتى الثمالة… وبات، وهو تحت المجهر الكيميائي العالمي، يحاول أن يكتب بقاءه، وفق سير المعارك ميدانيًّا، إلى أن يقضي مؤتمر جنيف – 2 المرتقب، أمرًا كان مفعولًا.
- يبقى لبنان… فهو ما زال، في مركب لم يغرق بعد، يتنفَّس فوق الماء: تصريحات سياسييه، غبائر مدنه، حرائق قراه وأحراجه، دخان الإطارات المشتعلة لألف سبب وسبب، العطور الفاخرة في ليله الذي لا ينام، لقمته الصعبة المغمسة بالعرق، توقعات “أنبيائه” التلفزيونيين، روائح أزماته الموروثة والحديثة التي لا عدَّ لها ولا حصر، والأهم عجز طبقته السياسية المطلق عن إيجاد ولو مخرجًا، حتى إذا ما غرق المركب، لا سمح الله، يبقى أحد اللبنانيين على قيد الحياة، ليقول: هنا لبنان، وأنا شعبه وحاكمه ودولته وحكومته ونوابه وإدارته… شرط أن يتقن السِّباحة.
آه لو يقرأ سياسيونا هذه الرسالة من فوق الماء… لأنهم ليسوا نزار قباني ولا عبدالحليم حافظ ولا محمد الموجي ليتنفسوا تحت الماء، ويغرقوا ويغرقوا ويغرقوا، ويظلوا أحياء، ويبقونا معهم… فنتفس جميعًا الصعداء، وليتنفس، بعدذاك، كلٌّ على هواه السياسي.