محطات نيوز – قد يكون الحَراك المتعلق بتأليف الحكومة، طوال الأيام الماضية، كذَّب تشكيكًا في بلوغه إلى نهاية سعيدة، أَبْدَيْتُهُ في مقالة الأسبوع الماضي، وعَدَدْتُ الأمر مجرد “طبخة بحص”. وعلى الرغم من أجواء التفاؤل الشائعة والسائدة، والكلام على قرب ولادة التشكيلة الحكومية، يقودني حَدْسي، لا معلوماتي أو تحليلي، إلى ألَّا أنتظر نُضج الحُصِيِّ في “طنجرة” الطابخين الكثر، ليس لأن كثرتهم قد “تشوشط” الطبخة، بل لأن بين أفرقاء النزاع المحلي من لا يملك قراره، ومن يملي عليه هذا القرار من الخارج لم تتضح لديه الصورة الإقليمية بعد…
وعليه، تُسجَّل إيحابية واحدة لهذا الحراك، هو بعثُه على تفاؤل ما، بدلًا من استمرار حال التشنج الحاد التي طبعت الأشهر التسعة الماضية، منذ استقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وتكليف النائب تمام سلام تأليف خليفتها، خصوصًا أن كلا الفريقين نفَّس الاحتقان بتراجعه عن شروط كانت تبدو تعجيزية، من أجل تسهيل التأليف، إلى حد أن جمهوريهما لم يهضما بعد هذه الخطوات المتقدمة. خذ مَثَلَيْن من أمثلة عدة تُضرب في هذا المجال: قول تيار المستقبل طويلًا إنه لا يجلس إلى طاولة حكومية واحدة مع حزب الله، قبل أن ينسحب من سوريا، أو اتهام الحزب لهذا التيار بأنه ينفذ في لبنان خطة أميركية – إسرائيلية بهجومه المتكرر على سلاح المقاومة والدعوة الدائمة إلى تسليمه.
لا الحزب انسحب من سوريا، ولا دعوات المستقبل إلى تسليم السلاح كفَّت… لكن العمل على حكومة جامعة، قائم على قدم وساق. وحين تابعتُ مواقف أهل السياسة المعنيين، والتبريرات التي ساقوها لخطابهم الجديد، وبالتالي ردود فعل مريديهم المبدئيين أكثر منهم، على ما يبدو، خُيِّل إلي أن أحد هؤلاء المريدين سأل أحد قادته: “كيف تقبلون ما رفضتموه طويلًا”؟، فجاءه الجواب: “شو بيفهمك بالزراعة”؟
“شو بيفهمك بالزراعة”؟… عبارة كنا نقولها لمن نظنه أقل فهمًا منا، حين يطرح علينا سؤالًا لا نرغب في الرد عليه أو لنفهمه أن الأمر لا يعنيه، سواء في صغرنا أو مراهقتنا أو شبابنا، وما زلنا حتى الساعة نستخدمها، كيف لا، وهي من “حواضر” العامية اللبنانية، وبعض “العنجهية” التي يمتاز بها كثر منا، وقد خلقنا الله وكسر القالب.
ولكن مهلًا يا سادة يا ساسة يا كرام، ومهلًا يا جمهورهم الحبيب الكريم أيضًا.
يا ليت أهل السياسة يفهمون في الزراعة ويطبقون مبادئها في حياتهم، لأنها لا تجلب إلا الخير والغلال والمواسم، على غرار فيلم بيتر سيلرز الشهير Being There (وترجمته “يحدث هناك”). وقصة هذه الرائعة السينمائية التي أنجزت عام 1979، تدور على “جنيناتي” بسيط في حديقة قصر، يفقد وظيفته بعد سنوات طويلة لم يَخْطُ خلالها خطوة خارج أسواره، بوفاة رب عمله، وبيع العقار بالمزاد العلني، فيُعطى تعويضًا ماديًّا ويحمل حقيبة بملابس وأغراض هي كل ما يملك في الدنيا، ويهيم على وجهه لا يدري ما يفعل، ولكن تستوقفه مشاهد على الطريق تابعها في التلفزيون، سلواه الوحيدة، فيتصرف كأنه يعرف الأماكن والأشخاص… إلى أن قاده خطأ ما إلى استوديو محطة تلفزيونية أعدت العدة لإجراء مقابلة مع أحد كبار السياسيين، يعرض خلالها برنامجه الانتخابي للمنصب الرفيع الذي كان يرغب في تبوؤه، ورؤيته للأزمة التي كانت تعانيها بلاده… فإذا ببيتر سيلرز، بسذاجته وثقافته المقتصرة على التراب والماء والنبات، يجيب عن الأسئلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بأمثال زراعية، أدهشت الجميع… وعُدَّت الحل الأمثل لتلك الأزمة.
أي، في اختصار، أن علاقة الفلاح بالأرض، هي علاقة صادقة، لا ينتج عنها كذب وخداع، بل عطاء وخير عميم، بعكس علاقة كثر من السياسيين بوطنهم وفي ما بينهم، ومع جمهورهم، وهي قائمة على المصلحة الشخصية والصراع على الكرسي، ولو كان كرسيًّا من قش أو بلاستيك.
ويا ليت جمهور أهل السياسة يُعمِل حسَّه النقدي، ولا ينجر انجرارًا أعمى خلف زعيمه أو سياسيِّه أو حزبه، فلا يُفاجأ ساعتذاك بتجاوز عقيدة أو انحراف عن مبدأ أو تغيير مسار.
ولا يفهمنَّ أحد أنني أعارض اتفاق السياسيين، اليوم في هذا الظرف الدقيق الذي تُرسم فيه معالم مستقبل العالم والمنطقة، أكثر من أي يوم مضى، ولا أستغرب بالتالي التنازلات والتسويات التي يفرضها نظامنا الطائفي. لكن مأخذي هو على هؤلاء السياسيين الذين يدركون أنهم محكومون بالتفاهم، شاءوا أم أبوا، فليقلعوا عن رفع سقوف خطابهم، لئلَّا تنهار عليهم، ذات يوم، ومأخذي على جمهور السياسة أن يحكِّم، في خياراته، عقله لا عاطفته… ثم إن غد الانتخابات لناظره قريب.
ولا أستغرب بالتالي أن يعلق على ما كتبت، سياسيٌّ من هؤلاء أو أي من أفراد جمهورهم، فيقول: “يا حبيب يونس شو بيفهمك بالزراعة”؟.